في مملكة آل سعود، ومنذ ثلاثة أعوام إلا نيفاً، تاريخ اعتلاء سلمان بن عبد العزيز العرش، اعتاد الناس الأوامر الملكية «الجريئة»، حتى كادوا مع الوقت يفقدون حسّ الدهشة والتعجب. لكن، ينجح محمد بن سلمان كل مرة في إثبات قدرته على «الإدهاش». هناك في قصر اليمامة في الرياض، يقبع «مجنون» يشغل العالم منذ السبت الماضي. والداخل السعودي، كما المنطقة، لا يزال رهينة القرارات المتسارعة والمفاجئة للأمير الصغير.
عاصفة قرارات حلّت، أول من أمس، على شخصيات من «كبار القوم»، في عالمي السياسة والمال، سقطوا جميعاً في قبضة ولي العهد. وهي قرارات يمكن تقسيمها إلى قسمين: أوامر ملكية كانت متوقعة لم تفاجئ أحداً، وقرارات لابن سلمان بصفته رئيس «لجنة مكافحة الفساد»، المشكّلة على عجل، اتخذها بعد ساعات فقط من تشكيل اللجنة، لتحدث فالقاً سياسياً في أرجاء المملكة.

متعب... آخر أحجار الشطرنج

تأخر قرار إطاحة رئيس «الحرس الوطني»، متعب بن عبدالله، نجل الملك السابق عبدالله بن عبد العزيز، ليكون آخر أحجار الشطرنج السعودي المتهاوية أمام المد «السلماني». ومع إطاحة متعب بالأمر الملكي، اجتاز السلمانيون آخر مرحلة من رحلة الانقضاض على مفاصل السلطة، لتحقيق انتقال آمن للمُلك إلى البيت السلماني، وخاصة من دون جيل أحفاد المؤسس عبد العزيز. بدأ الأمر بالانقلاب على ولي العهد مقرن بن عبد العزيز، فتعديل نظام الحكم، ومن ثم الانقلاب على ولي العهد محمد بن نايف، وما بينهما تعيينات أقصت المنافسين وأدنت أولاد الجناح السديري بداية، وضاقت لتنحصر في الجناح السلماني تالياً.

يراهن محمد بن سلمان
على تراكم سنتين من العمل لتثبيت سلطانه الأوحد

يضاف إلى تلك المحطات، قرارات أنشئت بموجبها مراكز قرار موازية لمؤسسات الحكم التقليدية بغية تفريغ النفوذ، عملياً، من المنافسين، وسحب البساط من تحتهم، قبيل الانقضاض المباغت على هؤلاء وهم عزّل من أي سلطة. في قصة متعب بن عبدالله، كان نموذج جهاز «أمن الدولة» الذي شكّله محمد بن سلمان قبل أسابيع، وجعله مرجعية لمختلف الأجهزة الأمنية، بما فيها «الحرس الوطني»، ما أطلق الإنذار الأخير لاقتراب تلقي متعب «الضربة القاضية». تجدر الإشارة إلى أن متعب، الذي عُيّن مكانه الأمير خالد بن عياف، ليس في لائحة الأمراء المعتقلين، كما أشيع، وإن كان مصيره في مثل هذه الحالة قد يكون مجهولاً، شأنه شأن محمد بن نايف.

توقيف الوليد: الدور على الجناح الاقتصادي

على عكس قرار إطاحة متعب، ثمة مفاجأة فجرها القبض على الأمير الملياردير الوليد بن طلال، بقرار من لجنة مكافحة الفساد. فمع هذا القرار، يكون ابن سلمان قد دشّن فصلاً جديداً من فصول مواجهة أصحاب النفوذ داخل المملكة، عنوانه أن لا أحد مستثنى من الحملة.
حتى أعوام خلت، تحمّل النظام السعودي «مشاغبة» الوليد ووالده طلال بن عبد العزيز، وبقي هامش هذا الجناح مصاناً، احتراماً لاتفاق ضمني، أو غير معلن، منذ المصالحة مع زعيم «الأمراء الأحرار»، وهو: «المال مقابل الحكم»، كما يردد البعض. لكن، منذ مدة، تضخّم بنك أهداف محمد بن سلمان، لينتقل إلى دوائر جديدة داخل أسرة آل سعود، من المنافسين إلى المنافسين «المحتملين»، إلى مراكز نفوذ أبعد تطاول آل الشيخ وعموم الجناح الديني، وطبقات نخبوية داخل المجتمع، من بينها حملة الاعتقالات الأخيرة لمثقفين ورجال دين. في توقيف بكر بن لادن، صاحب أحد أعمدة الاقتصاد السعودي «بن لادن للمقاولات»، إلى جانب الأمير الوليد بن طلال (رئيس شركة «المملكة القابضة للاستثمار»)، تنضم دائرة «الجناح الاقتصادي» و«الجناح الإعلامي» في المملكة إلى اللائحة المستهدفة. والجناح الأول (الاقتصادي) يشكّل كل من ابن لادن وابن طلال أركانه التقليدية المنصهرة مع النظام، كجزء لا يتجزأ منه.
في الإطار العام، تكشف هذه القرارات عن هستيريا يعيشها ابن سلمان، محركها ريبة كبيرة وخوف جارف من كل ما هو منافس أو مصدر قوة، قد يشاركه أي شكل من أشكال السلطة في الجزيرة العربية، ولا سيما من جهات لا يطمئن إلى ولائها وخضوعها التام لإرادته. وفي ما يخص شركة «بن لادن»، فقد تردد منذ الأشهر الأولى لصعود نجم ابن سلمان، أن الأخير يطمع في الاستحواذ على دور الشركة ووراثة مشاريعها لمصلحة شركات يملكها، وخصوصاً في التعهدات المعتاد أن تأخذها «بن لادن» في مشاريع توسعة الحرمين المكي والمدني.
أما الوليد بن طلال، فيحمل «أمير الليبراليين» إرثاً ثقيلاً من والده يبقيه مرشحاً دائماً لـ«المعارضة»، ومع هذا الإرث قوة مالية وازنة، ومشاغبة مستمرة على هامش النظام، لا تخفي طموحاً إلى عالم السياسة، بلغ ذروته مع إطلاق قناة «العرب» الإخبارية التي لم تبصر النور بضغط من النظام، وغادر مديرها الإعلامي السعودي جمال خاشقجي المملكة قبل أيام، مطلقاً خطاباً «اعتراضياً» لاذعاً ضد الجناح الحاكم في الرياض.
ماذا وراء «غزوة» ابن سلمان الجديدة؟ لا شك أن سردية الفساد ليست من ضمن الأسباب الجدية التي يناقشها العارفون بالشؤون السعودية. وهو فساد لا ينحصر بالوزراء والأمراء ورجال الأعمال الموقوفين، برغم أن حملة لمكافحة الفساد في دولة مثل السعودية تعد قصة «سوريالية» إذا ما قيست على طبيعة النظام، بجيش الأمراء الذي يستبيح ثروة شعب بأكمله منذ عقود. كيف وأن ابن سلمان نفسه هو «القاضي» في القضية (رئيس اللجنة)، وأن أي محاكمة جادة لأصحاب الصفقات، كما يردد سعوديون اليوم، لا بد أن تبدأ بـ«صفقة اليمامة» ونجمها بندر بن سلطان، لتكسب ثقة الجمهور.
كذلك فإن سيناريو إحباط انقلاب كان يدبر ضد ابن سلمان، أمر لا تسنده أي مؤشرات حقيقية، ولا يعدو كونه خيالاً أنتجته مفاجأة اللائحة الطويلة والدسمة للاعتقالات، وربما ساعد ابن سلمان في شكل الحملة على إعطاء طابع إحباط الانقلاب.
ما لا يشك فيه المتابعون لملف صراع الأجنحة في المملكة، من خارج دائرة المهللين لـ«بطل اجتثاث الفساد»، أن الحملة غير المسبوقة في تاريخ المملكة لا تشذ عن سياق ضرب كل الأجنحة والصقور غير موثقي الولاء، وإفراغ نفوذهم، سواء كان مالياً أو سياسياً أو دينياً أو إعلامياً، ليتجمع في قبضة ابن سلمان ويسيّل في مشاريعه. وكل مصدر قوة ونفوذ لا يكون الملك المقبل محوره، لا مكان له في «السعودية الرابعة». والحديث اليوم عن أقوى الشخصيات الاقتصادية، لا في المملكة فحسب، بل في العالم، بما في جيوبهم من ثروات من فئة عشرات مليارات الدولارات. وليل أمس، أكدت الرياض في قرار لاحق هذه الشكوك معلنة تجميد أموال الموقوفين، وأن «كل الأصول والممتلكات التي تشملها تحقيقات الفساد ستسجل باسم الدولة».

ماذا في عقل ابن سلمان؟

يراهن محمد بن سلمان على تراكم سنتين من العمل لتثبيت سلطانه الأوحد في مفاصل القرار السعودي، بما يكفل عدم مواجهة ردة فعل على هجماته. يراهن أيضاً على استعطاف الشارع بلافتة «مكافحة الفساد»، حين يلقي القبض على وجوه معروفة لدى الشارع بفسادها، وهو بذلك يكرر استراتيجيته المعهودة بتغليف القرارات الكبرى بمواقف «شعبوية» للتعمية. لكن، في كل القرارات والمواقف، يقع ابن سلمان في أسلوب رمي المشاكل والتهم بعيداً عن ساحته، فالتطرف صنيعة «الإخوان» وإيران، أما الفساد وسيول جدة ووباء كورونا فصنيعة خالد التويجري وعهد الملك عبدالله، وفشل حرب اليمن سببه إيران وحزب الله، وإقالة محمد بن نايف سببه إدمان الأخير على المخدرات... وبين كل ما تقدم، لا إنجاز، ولو واحداً، تلمّسه المواطن السعودي من وعود الأمير الشاب ومشاريعه التي لا حد لطموحها، ما عدا أمرين: زيادة الضرائب مع تراجع القدرة الشرائية للمواطنين، واقتراب موعد تحقيق طموحه الشخصي في الجلوس على العرش. وبعد كل قرار، يكبر الخوف في أرجاء قصر اليمامة. يكبر الخوف ويتعاظم هاجس القلق والشك في كل من حول ساكن القصر. لكن يمضي ابن سلمان بإصرار عجيب. يصر أكثر، يوماً بعد آخر، على أن «لا شريك له» في سلطان جزيرة العرب. وفوق هذا الإصرار، عناد شديد لبناء صورة «مقدسة» لأمير «سعودية جديدة» لا يفعل إلا ما هو خيّر. أمير «يعاني» من شرور من حوله ويجهد في حربهم. أما هو: فلا يُسأل عما يفعل وهم يسألون!