من الأحداث الكبار التي مرّت عليّ صبياً ولن أنساها ما حييت، وإن لم أكن أدرك مغزاها التاريخي حينذاك، تجمّع الجماهير الليبية في ميدان البريد الذي أعيد تسميته ميدان الجزائر، للاستماع إلى المناضل الجزائري الكبير أحمد بن بلّة. في ذلك اليوم، ولا أذكر التاريخ على نحو دقيق، بدا لي أن كل طرابلس الغرب، قد تدفقت إلى الميدان لتستمع إلى المناضل الجزائري الذي حضر إلى ليبيا بعد استقلال بلاده.
وقف الراحل الكبير أحمد بن بلّة ليتكلم، لكن الدموع منعته. إذ اعترف بأن الاستعمار الفرنسي لم يسمح له ولا لأبناء الجزائر بتعلم العربية، لغتهم الأم، فأكمل رفيقه المغدور محمد خيضر الكلام شاكراً الليبيين وكل العرب والمناضلين في العالم الذين وقفوا مع شعب الجزائر ونضاله من أجل التحرير، مذكراً بأن «اليوم الجزائر وغداً فلسطين».
ذلك كان الشعار المرفوع: «الجزائر اليوم وغداً فلسطين». الحماس لنضال الشعب الجزائري في ليبيا، كان منقطع النظير. كانت فرق من الشبيبة الليبية تقف عند مواقف الحافلات وبجانب مداخل المدارس وغيرهما من الأمكنة، تحثّ الناس على التبرع بسعر الركوب للجزائر، والتنقل مشياً على الأقدام. كنت صغيراً في ذلك الوقت، لكنني تعلمت من والدي المرحوم حبّ فلسطين، وحب الجزائر، وعدم الثقة بأي حاكم عربي، خصوصاً ذوو عون في شرق الأردن، العائلة التي احترفت العمالة للعدو الصهيوني وللاستعمار البريطاني.
في الذكرى الـ 63 على اندلاع ثورة التحرير الجزائرية في الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) 1954، من الطبيعي أن نخصّص حيزاً للحديث عن كتاب جديد لمناضلة جزائرية كبيرة حكت عن تجربتها في «معركة الجزائر»، ناقلة للقراء حصيلة تجربة نضالية فريدة لامرأة عربية، قد تكون نادرة في العالم العربي، لكنها لم تكن كذلك في حرب التحرير الوطنية الجزائرية. وبما أنّ التجربة الجزائرية ملهمة للعمل الوطني الفلسطيني، فهذا أمر إضافي يدعو للجمع بين القضيتين. إذ أنّ عدداً من قادة الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة كانوا في الجزائر وتعلّموا منها، وفي مقدمتهم القائد الفذ خليل الوزير «أبو جهاد».
إضافة إلى المناضل الراحل الكبير أحمد بن بلة، عرفنا رفاقه الأربعة الآخرين الذين اشتهروا جميعاً بالأحرار الخمسة. اعتقلهم المستعمر الفرنسي وحكم عليهم بالموت، لكنه تراجع تحت ضغط رأي عام عالمي متضامن مع الشعب الجزائري. كما عرفنا أيضاً المناضلة جميلة بوحيرد. لكن في «زهرة ظريف: من داخل معركة الجزائر - مذكرات مناضلة من أجل الحرية» (2017 ــ مترجم عن الفرنسية ـــ Just World Books) الصادر أخيراً بترجمة إنكليزية عن الفرنسية، سنتعرف إلى المناضلة الجزائرية زهرة ظريف بيطاط. سنتعرف على نحو أقرب إلى النضال المسلح الذي قادته «جبهة التحرير الوطني» في مدينة الجزائر، وإلى أسماء مجموعة من المناضلات الشهيدات اللواتي شاركن في الكفاح المسلح ضد المستعمر الفرنسي. نتعرف من خلال أسمائهن ومشاركاتهن إلى صفحة ناصعة من تاريخ مشاركة المرأة الجزائرية في النضال الوطني التحريري. نضال كلّف كثيرات حياتهن من أجل انتصار القضية.
هنا لا بد من التنويه إلى علمنا بصدور طبعة عربية من المؤلف في الجزائر قبل أعوام تحت عنوان «زهرة ظريف، مذكرات مجاهدة من جبهة التحرير الوطني الناحية المستقلة للجزائر العاصمة»، لكننا قرّرنا أن نصبّ اهتمامنا على النسخة الإنكليزية التي صدرت أخيراً في مناسبة جولة الكاتبة على الولايات المتحدة للترويج لعملها. المناضلة زهرة ظريف، كانت أول امرأة تشارك في زرع القنابل أثناء الثورة. وضعت قنبلة في مقهى «ميلك بار» في 30 أيلول (سبتمبر) 1956 أسفرت عن مقتل وجرح عدد من المستوطنين الفرنسيين.
لعله من المناسب هنا التذكير بفيلم «معركة الجزائر» للمخرج الإيطالي جيلو بونتيكورفو، كاتباً ومنتجاً وممثّلاً، فنقترب أكثر من المناضل ياسف سعدي مسؤول الناحية المستقلة للجزائر العاصمة في «جبهة التحرير الوطني» كونه من أبرز الأسماء التي ارتبطت بالمعركة مع رفيقاته ورفاقه منهم علي عمّار المعروف باسم علي لابوانت، ومحمود بوحميدي، وطالب عبد الرحمن، وعمر ياسف، كما أسهم في تأريخها وتوثيقها، علماً بأنه شارك ممثلاً في الفيلم.
وكانت السلطات الفرنسية قد منعت الفيلم مع أنه نال جوائز عالمية عدة، بل إنّ بعض صالات العرض في فرنسا، تعرّضت للتدمير على يد عصابات اليمين المتطرف. بعد مرور أربعين عاماً على الفيلم الأسطوري، سمحت فرنسا بعرضه، لكن كان عليها أن تنتظر أكثر من ذلك كي يقوم رئيسها اللاحق/ الحالي بالاعتراف بأن سياسة بلاده في الجزائر كانت استعمارية.
أما واشنطن التي كانت تعد العدة لاحتلال العراق، فقد أخرجت الفيلم من المحفوظات وعملت على عرضه لجنودها وضباطها ليكون دليلاً لهم في محاربة المقاومة العراقية. أبطال معركة الجزائر هزموا، وقضى كثيرون منهم، لكن الجزائر انتصرت، والعراق كذلك.
نتعرف في هذا المؤلف إلى مناضلات جزائريات قضين إما تحت تعذيب المستعمر الفرنسي، أو غدراً في حرب الإبادة التي شنها المستعمر الفرنسي في بلاد المليون شهيد الذين سقطوا من أجل حرية بلادهم. كما أنّ التعليقات على المؤلف والجدل بخصوص مراحل معينة في تاريخ الثورة الجزائرية، أثريا معارفنا، ليس فقط بخصوص أسماء مناضلين ومناضلات قضوا بصمت، وإنما أيضاً بشأن تاريخ مشاركة المرأة الجزائرية في النضال التحريري وحملها السلاح في وجه المستعمر المغتصب الذي كان يعلن دوماً أن الجزائر فرنسية وأن الجزائريين مسلمون فرنسيون!
من أسماء المناضلات المشاركات في «معركة الجزائر» التي ترد في المؤلف حسيبة بن بوعلي، وجميلة بوحيرد، وجميلة بوعزة، وحسيبة بوعلي، وفتيحة بوحيرد، وجوهر أكرور، وباية حسين وسامية لخضري (الأخضاري ــ اسمها النضالي نبيلة) التي تحظى بمساحة خاصة في مذكرات زهرة ظريف (اسمها النضالي فريدة) وذاكرتها، وقد رحلت في أول تموز (يوليو) عام 2012. وللعلم، فإن جميلة بوحيرد مواطنة شرف في سورية والعراق، وتحمل رتبة شرفية في الجيش العربي السوري.

بكى أحمد بن بلّة أمام الجماهير، لأنّ الاستعمار منعه من تعلّم العربية

توضح الكاتبة مراحل تطور النضال التحرري الجزائري منذ بدء الاستعمار الفرنسي في القرن التاسع عشر، فيما كانت الثورة المعاصرة امتداداً لتاريخ طويل من نضال الجزائريين من أجل تحرير وطنهم من الاستعمار الاستيطاني الفرنسي. لذا، فإن أهمية هذا المؤلف ـــ الذي أهدته الكاتبة إلى كل من بوعلام أوصديق وعلي الهادي ومصطفى فتال وعبد القادر كشدة الذين يعود لهم الفضل في التحاقها بجبهة التحرير الوطني ـــ تتأتى من خلال ربطه بين مختلف المعارك التحررية والنظر إلى الثورة «النوفمبرست» على أنها ذروة الكفاح. لكن أهميته تكمن أيضاً في كونه يركّز على دور المرأة في ذلك التحرر. علماً بأن الكاتبة ركزت على تجربتها الشخصية العائلية والمنزلية والمدرسية والجامعية ودور كل منها في صقل معارفها الوطنية، وبالتالي دفعها للالتحاق بالعمل الوطني التحرري.
الرسالة الأهم التي يحملها الكتاب هي دور المرأة الجزائرية في النضال من خلال التطرق إلى دور النساء في نقل أخبار الثورة والثوار في الجبال، قبل أن تنتقل إلى المدن عام 1954 لتعلن بداية مرحلة جديدة من الكفاح انتهت برضوخ فرنسا واندحارها من الجزائر، بعدما كان وزير داخليتها، ورئيسها اللاحق فرنسوا ميتران أعلن أنّ الثورة ما هي إلا أحداث عرضية!
تطرّقت الكاتبة إلى دور المرأة الجزائرية في التحريض على المشاركة في الثورة ضمن فضائها الخاص، ومن ذلك الحمام! تقول إن النسوة من أهالي الثوار في الجبال، كن يتحدثن عن الثوار ويقولن إن اسمهم المجاهدين، وأن من يقضي منهم يسمى شهيداً. تلك كانت من المرات الأولى التي تسمع الكاتبة هذه الأخبار، فتدرك مدى المسؤولية الملقاة عليها كامرأة في عملية المشاركة في الثورة، مع أن تحوّل ذلك الفهم إلى عمل ونشاط مادي كان عليه الانتظار إلى أن وصلت إلى الكرسي الدراسي في الجامعة. عندها، تسنى لها معرفة المزيد عن وحشية المستعمر الفرنسي، بخاصة بعد مجازره الوحشية بحق المدنيين الأبرياء في سكيكدة وغيرها من المدن والبلدات الجزائرية. وقد ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من البشر من رجال ونساء وأطفال، وكذلك حريق القصبة في الرابع عشر من تموز (يوليو) 1956، والهجوم على شارع تيبس وتفجير قنبلة في قلب القصبة في نهج دوثيب في الحادي عشر من آب (أغسطس) 1956 الذي أسفر عن تدمير مبانٍ سكنية عدة، وقضاء نحو 50 مواطنة ومواطناً فيه، إضافة إلى نحو مئة جريح.
في هذه المذكرات، اختارت مؤلفتها البيئة العائلية الخاصة بها، مروراً بالعلاقات الاجتماعية السائدة، مدخلاً لرواية تجربتها النضالية، إذ قسمت روايتها إلى الفصول الآتية: «في وسط الأسرة»، «الوعي»، «الاتصالات الأولى مع جبهة التحرير الوطني»، «في قلب الكفاح المسلح»، «في القصبة»، «تدويل القضية الجزائرية»، «إضراب الثمانية أيام»، «أوقات قانطة»، «اعتقال زهرة ظريف».
لذا، من الطبيعي أن تعترف في مدخل الكتاب بدور والديها في تنمية وعيها الوطني، غير ناسية دور والدي رفيقتها سامية لخضري وأستاذها الماركسي في مادة الفلسفة جرنسكي.
مهمة زهرة ظريف الدراسية في الحاضرة الجزائرية لم تكن سهلة، فهي ابنة الريف وضوابطه الاجتماعية الحديدية. كان عليها التنقل بين فضاءين، الصباحي للذهاب إلى المدرسة، أي فضاء تسوده والدتها، والجزائر الكبيرة والعميقة بجميع مكوناتها والثقافة الفرنسية التي كانت تتلقاها خارج المنزل. كان على الطفلة زهرة، أن تعيش هذا الانقسام بين هذين العالمين. لكنها تفوقت دراسياً، مما سمح لها بالالتحاق بثانوية «فرمنتين» الأفضل في الجزائر عام 1947.
الطفلة ثم الصبية زهرة كان عليها حماية شرف العائلة والقرية عبر التمسك بما كان يعد أخلاقاً مثالية، واحترام العادات والتقاليد التي كانت لا تسمح بمخالطة زملائها الذكور، وهو أمر حذّرتها منه والدتها. لكن حياتها التعليمية، الثانوية والجامعية، كانت مثيرة وحافلة بالنشاط السياسي والثقافي.
تذكّر زهرة ظريف القارئ بجذورها العائلية لتشرح مراحل تكوين شخصيتها، الوطنية الملتزمة. تقول إنها ولدت في شهر رمضان في تيارت في سهل سرسو، وتحديداً يوم 28 كانون الأول (ديسمبر) 1934، وهي الثانية عائلياً في أسرة مكوّنة من خمسة أولاد وابنتين. والدها أحمد تخرج في «مدرسة سيدي عبد الرحمان» في الجزائر، بعدما درس المرحلة الأولى من التعليم في سرسو، ثم المرحلة الثانية في زاوية سيدي بومدين في تلمسان. كما مارس تعليماً أكاديمياً في كلية الآداب في مدينة الجزائر. سمح له هذا التكوين بممارسة مهنة القاضي. أما والدتها سعدية، ابنة الحاج جلول، فقد تزوّجت من والد زهرة ظريف في سن مبكرة عام 1930. بعد مرور ست سنوات على زواجهما، انتقلا بعيداً عن أسرتيهما إلى تيسمسيلت، وكان ذلك الاستقلال العائلي ثورةً ضد النظام الاجتماعي السائد في ذلك الوقت. عزّز انتماؤها إلى أسرة غنية ونبيلة حصولها على التعليم وعلى الوضعية التي وصلت إليها في ما بعد.
عمل والدي الكاتبة المناضلة، كان فعلاً ثورياً لأنه حطم القيود.

نتعرف إلى مناضلات جزائريات قضين إما تحت التعذيب أو غدراً في حرب الإبادة
فالثورة ــ بحسب المفكر المناضل فرانز فانون ــ هي مدّ زاحف يهدف إلى تغيير مجرى التاريخ. وبالتالي، فهي تهز أركان المجتمع لتهدمها لتضع أسس مجتمع جديد. لذا، فإن محتوى هذا المؤلف دليل مرتبط بما يمرّ به عالمنا العربي، حيث ابتذل معنى الثورة، وساد تدمير الممتلكات وقتل المخالفين في الرأي والسحل وفرض الخوات والتعذيب وقطع الرؤوس والعمالة للقوى الاستعمارية ولقوى التخلف من البداة ولأموال الفساد والإفساد. إنه دليل ثوري أيضاً لشعبنا الفلسطيني لخلق ثورة حقيقية تلتقطنا من وديان الهزائم والاستسلام وتنقلنا إلى زمن الانتصارات.
فرانز فانون، المواطن من جزر المارتنيك ومن التبعية الفرنسية، صاحب مؤلف «المعذبون في الأرض»، شارك في حرب التحرير الجزائرية طبيباً ومنظراً، وصار وسفيرها في غانا. كتب عن المرأة الجزائرية المناضلة: «إن هذه المرأة التي تنقل عبر طرقات الجزائر أو قسنطينة القنابل اليدوية، أو خزانات البنادق أو البنادق الرشاشة، هي المرأة التي سوف تنتهك غداً وتعذب، لم تعد تستطيع التفكير مرة أخرى في التفاصيل الخاصة جداً بتصرفاتها المسلكية القديمة. إن هذه المرأة التي تكتب الصفحات البطولية في التاريخ الجزائري، تعمل على نسف العالم الضيق، اللامسؤول، الذي كانت تعيش فيه، فتمضي جنباً إلى جنب متعاونة مع الرجل في تحطيم النظام الاستعماري وفي ولادة امرأة جديدة».
مؤلف المناضلة الكبيرة أكبر في معناه ومحتواه من أن يستوعبه أي عرض، مهما كان مسهباً. لعلنا نرى طبعة جديدة للنسخة العربية لتكون دليلاً نضالياً إضافياً للأجيال الجديدة الثائرة حقاً.