كثيرون عرفوا جان شمعون صوتاً، قبل أن يكتشفوه عبر الصور. كان ذلك من خلال حلقات «بعدنا طيّبين… قول الله!» : اسكتشات زياد الرحباني الفريدة، كنّا نترقّبها على أثير الإذاعة اللبنانيّة بعد «الانقلاب الأبيض» الذي قام به العميد عزيز الأحدب في آذار (مارس) 1976. والآن يمكننا القول إنّه لم يبقَ شيء تقريباً من محاولة الأحدب الطوباويّة «للاصلاح»، إلا تلك الاسكتشات الإذاعيّة، الراديكاليّة، التي قد تضيق بها محطّات كثيرة في أيامنا.
قفشات سياسيّة تعكس موقفاً ناضجاً من الصراع، وحواريات ساخرة تقوم على تحليل ورؤيا يساريين، وأغنيات هاذية ترسّخ النفس الشعبي… إن حلقات «بعدنا طيّبين..» المسكونة بصوت جان وزياد، صارت أسطوريّة، وتنازعها الجمهور لسنوات طويلة على أشرطة الكاسيت، ثم السي دي. والمغامرة التي ترافقت مع لحظة سياسيّة خاصة، خاضها زياد قبل تقديم مسرحيّاته الكبرى، مع شريك ومحاور، اسمه جان شمعون. ممثّل يأسرك بحنجرته المميّزة، ولهجته الزحلاويّة، وطريقته في إشباع الكلمات، وتلك النبرة الساخرة التي تصبّ في صميم التوجّه الشعبي، والنقد السياسي المقذّع، كما أراده الرحباني الابن. ومَن تسنّى له أن يتعرّف لاحقاً إلى صاحب القامة المديدة، والشاربين الكثيفين، سيُدهشه كم أنّ الرجل يُشبه صوته! شخصيّة منفتحة، جذلى، ملوّنة، حادة رغم طيبتها، ضاحكة، كريمة، ظريفة، صلبة في تمسّكها بالمبادئ، واثقة سلفاً من نتيجة المعركة الصعبة والطويلة. هذا «التفاؤل الثوري»، في قاموس العارفين، لم يفارق جان يوماً، على الدرب المتعرّجة، ولا شريكته في السينما والحياة مي المصري. لقد تمخّض عن تجربة فريدة، جمعت بين الابداع والالتزام، بين الهواجس الجماليّة والنضالات الوطنيّة. اليوم مع انطفاء جان شمعون بعد اعتكافه في الصمت، ندرك أكثر أهميّة هذا المسار الاستثنائيّ في تاريخ السينما العربيّة، وكم يصعب أن نجد له ورثة. لقد أخذ الكاميرا إلى الشارع كي تشهد. زرعها بين الناس، في المتاريس والخنادق، «تحت الأنقاض» وعند خطوط التماس، على حافة الجراح، كي توثّق محطّات هذا المخاض العسير، كي تنقل صوت الناس وحكاياتهم، أحلامهم وعذاباتهم. جان ومي، هما حاملا لواء السينما المقاومة بامتياز، «سينما الانسان والذاكرة»، حسب عنوان تظاهرة تكريميّة للثنائي، نظمها «نادي لكل الناس» في العام 2003 في بيروت. عندما عاود النادي الكرّة تحت لواء المقاومة، في ربيع العام الماضي، كثيرون شعروا أنّها ستكون التحيّة الأخيرة…
كان جان قد درس المسرح في «معهد الفنون الجميلة» في الجامعة اللبنانيّة، قبل أن يسافر إلى باريس، العام 1969، ليتعلّم فنون السينما في السوربون. بطبيعة الحال اختار كليّة سان دونيه، معقل الحُمر والثوار والخوارج يومذاك، وكان زخم الثورة الطلابيّة لا يزال في أوجه، بأفكارها، ونضالاتها، ورموزها، وسينمائييها من مخرجي «الموجة الجديدة». دخل أيضاً معهد «لوي لوميير» المتخصص، وبعدها بسنوات كثيرة، كان الأساتذة المخضرمون يتذكّرون بقوّة ذلك «الطالب اللبناني» الذي لفت أنظار الجميع بتميّزه، وباتوا يقرأون عنه في الصحف بعدما صار سينمائيّاً معروفاً. مرحلته الباريسيّة الأولى (سيصبح له في المدينة موطئ قدم بعد الـ 83)، شكّلته سينمائيّاً وسياسيّاً. وعندما عاد إلى بيروت ليشهد انفجار الحرب الأهليّة، كان قد اختار خندقه. بعيداً من البيئة الانعزاليّة، سيرسم الفنّان الشاب لنفسه طريقاً ثوريّة، تقدّمية، عروبيّة، معادية للاستعمار، بوصلتها فلسطين. وسيصبح مقاتلاً بالكاميرا، ضدّ الاحتلال، والتعصّب، والطائفيّة، والجهل، والظلم على أشكاله. مع المخرج الفلسطيني مصطفى أبو علي، والايطالي بينو أدريانو سيحقق باكورته «تل الزعتر» (1976). ليعقبه بوثائقي ثان، أممي النفس، بعنوان «أنشودة الأحرار» (1978) الذي يتناول حركات التحرر في العالم، ونضالات الشعوب من أجل التحكّم بمصيرها. في «مؤسسة السينما الفلسطينيّة»، التقى بشابة فلسطينيّة تدرس السينما في «جامعة سان فرنسيسكو». بعدها بعام ونيّف سيلتقيان مجدداً ليعملا معاً، ويصبحا جسداً واحداً. يظنّ الناس إن حبيبته هي التي أخذته إلى فلسطين، في الحقيقة فلسطين هي التي أخذت جان شمعون إلى مي المصري. معاً حققا مجموعة من الأفلام الوثائقيّة المرجعيّة، حتى لتختلط أحياناً على المرء أبوّة الأفلام. «أطفال شاتيلا» و«أحلام المنفى» و«حنان العشرواي» هي من إخراج مي وحدها. لكن جان دائماً في الجوار، منتجاً تنفيذيّاً. والعكس صحيح مع أفلامه هو: «رهينة الانتظار»، و«مصابيح الذاكرة»، و«طيف المدينة» فيلمه الروائي اليتيم، فالرجل - الكاميرا وريث تزيغا فيرتوف، منذور للسينما الوثائقيّة… أما أفلامهما معاً، فمحطّات أساسيّة في السينما العربيّة، بدءاً بـ «تحت الأنقاض» المصوّر خلال الاجتياح الاسرائيلي في الـ 82، ثم «زهرة القندول» ذات النفس النسوي الذي يشكّل رافداً أساسياً في سينما جان شمعون ومي المصري، و«بيروت - جيل الحرب»، وطبعاً «أحلام معلّقة».
جان شمعون هو أحد روّاد السينما اللبنانيّة الجديدة مع الراحلين مارون بغدادي ورندة الشهّال، ومع جوسلين صعب وبرهان علويّة… لكنّه بقي على حدة، في أسلوبه، وأعماله، وخياراته الراديكاليّة. اختار أن يؤرّخ للواقع وصراعاته، كان يصوّر كمن يحارب. لبنان الحرب الأهليّة، بلد «الأحلام المعلّقة»، يتقاطع عنده، مع لبنان المقاوم من خلال نسائه بشكل أساسي (المقاومة خديجة حرز محور «زهرة القندول»). وفلسطين هي دائماً العنوان الأساسي، تتعانق مع لبنان في «أرض النساء»، من خلال المناضلات كفاح عفيفي، وسميحة الخليل، وفدوى طوقان… لا بد من الاشارة إلى الأفلام التي حلم بها ولم يصوّرها: واحد عن فيروز، وآخر عن أنطون سعادة، وثالث عن أدهم خنجر أحد رموز المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي… أما وداد حلواني أيقونة أهالي مفقودي الحرب في لبنان، فعبرت بشكل مباشر أو غير مباشر في ثلاثة من أفلام الثنائي. «مفقودو الحرب»، هذا الجرح العظيم في ذاكرتنا الجماعيّة، بقي هاجساً رئيسيّاً في سينما جان شمعون. نعم صاحب الكاميرا المقاومة، هو أوّلاً وأخيراً سينمائي الذاكرة المثخنة بالجراح. تلك الذاكرة التي أبحر إليها بصمت، وقد بلغها بالأمس أخيراً.
* أصدر «نادي لكل الناس» معظم أعمال جان شمعون
ومي المصري على أقراص دي في دي.