قطع الجيش السوري وحلفاؤه أشواطاً إضافية على الطرق نحو «عروس الفرات». معارك دير الزور الكبرى تبدو أقرب من أي وقت مضى، رغم أنها ما زالت في حاجة إلى تعبيد إضافي، سواء في ما يتعلّق بالحسابات التكتيكية المرتبطة بالجغرافيا أو بالتوازنات السياسيّة الدقيقة التي باتت مفتاحاً أساسيّاً من مفاتيح معارك الشرق السوري منذ شباط الماضي (مع خواتيم معركة الباب).
وعلى الرغم من أنّ الجيش فتح أخيراً أبواب محافظة دير الزور عبر حدودها الإدارية مع الرقّة، غيرَ أنّ التكتيكات التي انتهجتها معارك «الطريق إلى الدير» حتى الآن لا توحي بنيّات لاستعجال التوغّل عبر محورٍ منفرد. وثمّة ملاحظات جديرة بالانتباه تفرض نفسها لدى مقاربة عمليات الجيش وحلفائه في الشهور الأخيرة، وعلى وجه الخصوص معارك البادية بمحاورها المتباعدة ومساحتها الشاسعة، والتي تعتبر معركة دير الزور جزءاً من امتداداتها الطبيعية (راجع «الأخبار»، العدد 3200). وعلى رأس تلك الملاحظات يأتي الحرص على مزامنة العمل بين محاور مختلفة تفضي إلى هدف استراتيجي أساسي، وهي في حالة دير الزور قد اشتملت حتى الآن على خمسة محاور: المحور الشمالي الغربي (ريف الرقة الجنوبي الشرقي)، المحور الغربي (ريف حمص الشرقي ومعركته المفصليّة السخنة)، المحور الجنوبي الغربي (ريف حمص الجنوبي الشرقي، ومعركته المفصليّة حميمة)، المحور الشرقي (ومسرحه خلف الحدود من الجهة العراقيّة، ويضطلع في الدرجة الأولى بمهمة قطع خطوط الإمداد)، أما خامس المحاور فداخل مدينة دير الزور نفسها (بالإفادة من القوات السورية المتمركزة بشكل أساسي في المطار). وسُجّلت في خلال اليومين الماضيين تحركات لافتة للجيش على المحور الخامس، قوامها حفر خندق بطول قارب 300 متر في منطقة المقابر، بهدف قطع خطوط إمداد «داعش» بين جبل الثردة ومواقعه في المقابر. ويبدو جليّاً أن خطط الجيش السوري أخذت في حسبانها ضرورة توخّي الحذر من أيّ هجمات ارتداديّة يحاول من خلالها التنظيم قلب الموازين داخل مدينة دير الزور، سواء عبر مهاجمة المطار الذي صمد طوال السنوات الماضية أو عبر مهاجمة الأحياء الخاضعة لسيطرة الدولة السوريّة. وعلى نحو مماثل، يمكن تفسير الحرص على عزل مناطق وجود «داعش» في ريف الرقة عن نظيرتها في ريف دير الزور للحيلولة بين التنظيم وبين سحب كل قواته من الرقة نحو دير الزور (سواء عبر اتفاق مع قوات سوريا الديمقراطيّة، أو كمسار إجباري يفرضه سير معارك الرقّة).

اللاعب الأميركي لم يُسلّم حتى الآن بأنّ المنطقة باتت منطقة عمليات روسيّة

ويشرح هذا التفصيل جزءاً من أسباب تعثّر معركة الرقّة التي تخوضها «قسد» بوصفها ذراعاً بريّة لـ«قوات التحالف الدولي»، حيث لعب انخفاض فرص الانسحاب نحو دير الزور دوراً أساسيّاً في استماتة مسلّحي «داعش» داخل الرقة. وتتوافق مسارات العمليات العسكرية حتى الآن مع ما أوردته «الأخبار» في منتصف حزيران الماضي، ويبرز الجيش وحلفاؤه حرصاً على حساب الخطوات وتنويع وسائل التقدّم وفقاً لما تفرضه معطيات كلّ محور على حدة، من دون إغفال انعكاساته على بقية المحاور. وتأسيساً على ذلك، يمكن فهم قيام الجيش باقتحام بعض المناطق، وتفضيله الالتفاف على مناطق أخرى وفرض أطواق تعزل مسلحي التنظيم المتطرف عن احتمالات التأثير في المعارك التالية. ومن المنتظر أن يتحوّل جبل بشري الاستراتيجي إلى واحد من أوضح الأمثلة على عمليات الالتفاف والعزل، بعد أن تقدمت القوات السورية أخيراً إلى تخومه، مع ما يعنيه هذا من انعكاسات متوخّاة على مسار معارك السخنة، كما على التقدم في ريف دير الزور الغربي. في الوقت نفسه، تبرز معطيات متداخلة في ريف دير الزور الجنوبي الشرقي، وعلى وجه الخصوص ما يتعلّق بمدينة البوكمال الحدودية التي تحوّلت في الشهور الماضية إلى واحدة من الملاذات الأخيرة لتنظيم «داعش» في الشرق السوري (تنافسها في ذلك مدينة الميادين، الواقعة أيضاً في ريف دير الزور الجنوبي الشرقي). وعلى رأس المعطيات المذكورة يأتي الحرص الأميركي على الحضور حتى الآن في أجواء البوكمال، كما في أجواء الميادين. وفي خلال الأيام الأخيرة، كثّفت طائرات «التحالف الدولي» استهداف البوكمال، في مؤشر واضح على أن اللاعب الأميركي لم يُسلّم حتى الآن بأنّ المنطقة باتت منطقة عمليات جويّة روسية. ومن شأن هذا التفصيل أن يُعرقل أيّ عملية بريّة للجيش وحلفائه نحو البوكمال التي تحظى بأهمية استراتيجية خاصة، نظراً إلى موقعها الحدودي، وهي أهمية تضاعفت في الحسابات الأميركية بعد قيام الجيش السوري وحلفائه بعزل القوات المدعومة أميركياً في منطقة الزقف. وبات دق مسمار أميركي في البوكمال أمراً فائق الحيويّة في إطار الاستراتيجيات الأميركية الحريصة على تفريغ عمليات الجيش وحلفائه في أم الصلابة من محتواها. وفي حين أفلحت العمليات المذكورة في وصل الحدود السورية العراقية، وتأمين مسلك بريّ على مسار طهران – دمشق، فإنّ من شأن إحلال الأميركيين قوات محسوبة عليهم في البوكمال أن يضع لسان السيطرة السورية شمال الزقف بين فكّي كماشة (بين البوكمال والزقف). ولا تعتبر الخيارات الأميركية كثيرةً لتنفيذ هذا المخطط، إذ بات تقدم القوات المدعومة أميركياً نحو البوكمال متعذراً من دون الدخول في صدامات مباشرة مع الجيش السوري، وهو أمر أوضح الأميركي صراحةً أنه غير وارد في حساباته، وفقاً لما نقلته شبكة «سي أن أن» الأميركية قبل أيام. وإذا ما بقي هذا الخيار الأميركي ثابتاً في المرحلة الراهنة، فسيكون خيار الإنزالات المظليّة خياراً وحيداً لتثبيت نفوذ في البوكمال، على نحو مماثل لما تم تنفيذه في الطبقة (ريف الرقة الجنوبي). ورغم أنّ المجموعات المسلحة الموجودة في منطقة النفوذ الأميركي في التنف سبق لها أن خاضت تجربة فاشلة في هذا الإطار، غير أنّ تدعيم تلك المجموعات بعناصر أميركيين (بشكل سرّي أو مُعلن) يبدو خياراً وارداً. وتبدو الأنباء السارية عن وجود عدد من قيادات «داعش» في البوكمال ذريعةً مناسبةً للقيام بخطوة من هذا النوع. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن مسألة الإنزالات الجويّة في البوكمال كانت من أبرز التوصيات التي خلص إليها تقرير مهم صدر قبل فترة عن «معهد دراسات الحرب/ ISW».

سباق «الخلايا»

تشهد مدينتا البوكمال والميادين على وجه الخصوص نشاطاً متزايداً يمكن تسميته «سباق الخلايا». وتؤكد معلومات محليّة متقاطعة أنّ تنظيم «داعش» المتطرّف قد كثّف في خلال الشهر الأخير حملات المداهمة والاعتقال في المدينتين المذكورتين، كذلك لوحظت زيادة في «التدقيق الأمني على وسائل الاتصال، وتزايدت حالات مصادرة الحواسيب والهواتف». ويبدو جليّاً، وفقاً لمصادر محليّة، أن التنظيم «يستشعر نشاطاً خارجيّاً لاستقطاب مجموعات من أبناء المدينتين وتشكيل خلايا تُدار عن بُعد». وليست هذه المرة الأولى التي يسعى فيها التنظيم إلى تشديد قبضته الأمنية، لكنّ الحملة «تبدو الأشدّ وحشيّة منذ عام على الأقل». على صعيد آخر، سرت في خلال الأيام العشرة الأخيرة أنباء في المجتمع المحلي عن «وجود أبو بكر البغدادي حيّاً في إحدى القرى الممتدة بين البوكمال والميادين». ووجدت تلك الأنباء طريقها أخيراً إلى عدد من وسائل الإعلام الرسميّة.