نلهث وراء سيرة شاعر وروائي أنهى حياته بالانتحار، بعد إنجاز مذكراته مباشرة. كان السطر الأخير من مذكرات تشيرازي بافيزي (1908- 1950) حاسماً، وغير قابل للمراجعة «لا كلمات. حركة. لن أكتب بعد الآن». بعد 9 أيام، تناول 20 حبة منوم، واستلقى فوق سريره في إحدى غرف «أوتيل روما» في مدينة تورينو، ولم يستيقظ أبداً. في «مهنة العيش» (دار المدى ـــــ ترجمة عباس المفرجي) نتعرّف عن كثب على مسودات هذا الشاعر والروائي الإيطالي في فوضاها وألغازها. أفكار متضاربة، جمل مبهمة، عبارات منقوصة. ذلك أن صاحب «عمل منهك» لم يفكر أن ينشر يومياته التي دأب على تدوينها طوال عقدٍ ونصف، لكنه قرّر متأخراً نشر مذكراته. لن نجد خيطاً واحداً يلضم خرز أفكاره، فهو يعتني أولاً بما يخص مفهومه للشعر ومسار تجربته وتقنياتها، ثم يعرّج نحو أفكار فلسفية متلاطمة، قبل أن يلتفت إلى أصعب المهن «مهنة العيش». كانت فاشية موسوليني تعمل بطاقتها القصوى، وكان بافيزي من ضحاياها. إذ تعرّض للاعتقال نحو عشرة أشهر، ما قاده إلى القنوط.
وعلى المقلب الآخر كان يعيش فشلاً عاطفياً، بعد علاقة قصيرة انتهت بالهجران مع الممثلة الأميركية كونستانس داولينغ. هذه الوقائع جعلت منه كائناً مكتئباً ومضطرباً وهذيانياً. وتالياً فإن تفكيره بالانتحار لم يكن مستغرباً. سنجد مقطعاً كاملاً في روايته «بين النساء وحدهن» عن عملية انتحار. ربما تكمن صعوبة العيش، في تلك المفارقة المحزنة ما بين فشله الحياتي وتفوقه الإبداعي، بالإضافة إلى شكوكه التي لا تنتهي عن أهمية ما يكتب. لذلك فإنه يفتّش على الدوام عن أسلوبية مضادة لما كتبه الآخرون روائياً وشعرياً. في اعترافاته، يفكر بصوتٍ عال بما ينبغي إنجازه، لكنه لا يصل إلى يقين «قدري هو أن أعانق الظلال» يقول. ما أن نتوغل قليلاً إلى الأمام حتى نفقد البوصلة، في انتقالات مباغتة، من هوميروس إلى مارسيل بروست، مروراً بفلسفة العزلة، والخيبة في الحب، والعلاقة بين هياج العاطفة وكتابة الشعر. يبرر هذه الفوضى بقوله: «قد تكون فائدة هذه اليوميات في الوفرة غير المتوقعة من الأفكار. أصالة هذه الصفحات هي أنك تترك البنية تستنبط نفسها، وتضع روحك أمامك».

حيرة لا نهائية في تشريح سيرة مضطربة

شيوعي وكاثوليكي! حيرة لا نهائية في تشريح سيرة مضطربة، وقدرة هائلة على رسم أسباب فشله الشخصي وانتكاساته الحياتية. هكذا يقترب شيئاً فشيئاً من فكرة الانتحار. «أعرف أنني محكوم إلى الأبد بالتفكير في الانتحار. مبدئي الأساسي هو انتحار، لم يُرتكب أبداً، لن يُرتكب أبداً، لكن التفكير فيه يداعب حواسّي». هكذا عاندته الحياة جولةً وراء أخرى. فقد كان يتوقّع أن يلقى كتابه الشعري الأول «عمل منهك» ترحيباً عظيماً، وأن يطرق أحدهم بابه لتهنئته، لكن أول من طرق بابه فعلاً رجال الشرطة الذين أتوا لاعتقاله. ثنائية المجد الشخصي وعار الآخرين، ستلازمه طوال سنوات الكتابة. في فحصه لمنجزه الشعري، يصل إلى قناعة بأن العالم فقد مظهره من الافتتان، وأن «الأشياء التي سرّتني وأرضتني هي الآن مطفأة في صفحة مطبوعة اختزلتها إلى رماد». تبخيس كتابته وندمه على أفعال وخطايا لا تحصى، يأتيان هنا كضربٍ من المحاكمة الذاتية. ذلك أنه طوال حياته لم ينظر إلى الحياة كتسلية، وها هو يكتشف وحدته «مثل شجرة، لا تفعل شيئاً سوى العيش». في منطقة ما من اعترافاته، سنكتشف أن سبب تعاسته يتعلّق بفشله في العلاقة مع المرأة في المقام الأول. هذه العلاقة الشائكة بامتحاناتها المتعددة، جسدياً وعقلياً «حين يتفجّع رجل على امرأة كان خانها، فهذا ليس بدافع حبه لها، بل بدافع شعوره بالإذلال لأنه لم يكن جديراً بثقتها». ربما بسبب مثل هذه المحاكمة، تحوم فكرة الانتحار لديه بوضوح أكبر «الفشل هو الذي يجعل الانتحار جديراً بالمحاولة». يلخّص جون تايلور شخصية تشيرازي بافيزي بأنه «شكّاك أبدي». على الأرجح، إن هذا الشك هو ما يبلور عمله الإبداعي، عن طريق سعيه للابتكار والسير وحيداً في دروب لم يسلكها أحد سواه. لذلك، فهو يمحو كثيراً من أفكاره التي يعتبرها غير ناضجة. في النسخة الاصلية من هذه المذكرات، مقاطع مشطوبة، وفراغات، وعبارات مبهمة، وهذا ما حدا بدار النشر أن تضع هامشاً تنصح فيه القارئ أن يحزر بعض الكلمات. ربما كان علينا أن ننتبه باكراً إلى أنّه افتتح كتابه بمقطع من «جحيم دانتي»، ألا يكفي هذا كي نتوقع بأننا مقبلون على جحيمٍ آخر في هذه المذكرات؟