بسطُ السيطرة على كامل مدينة حلب بات مسألة وقت لا أكثر في موازين الجيش السوري وحلفائه، بعد أن تقلّصت رقعة الأحياء الخارجة عن السيطرة إلى حوالى خمسة في المائة مما كانت عليه قبل أقلّ من أسبوعين.
ويمكن القول إنّ دمشقَ وحلفاءها يوشكون على أن يعبروا «منعطف حلب» متسلّحين بكفّة راجحة في موازين القوى بصورة غير مسبوقة منذ أن تحوّلت الأزمة السوريّة إلى حرب مفتوحة قبل أكثر من أربع سنوات. وعلى الرّغم ممّا خلّفته السنوات المنصرمة من أعداد هائلة من الضحايا، وحجم دمار طاول معظم المناطق السوريّة، وشروخ اجتماعيّة أفقيّة وشاقوليّة، غيرَ أنّ كلّ ما سبقَ لا يدخل في حسابات «الربح والخسارة» في المنطق البراغماتي للحروب (يفرض التسليم بهذه الحقيقة القاسية نفسَه خلافاً للمنطق الانساني).
ولا تقتصرُ مفاعيلُ الانهيارات المتلاحقة في صفوف المجموعات المسلّحة على خسارتها ورقة الجغرافيا الحلبيّة فحسب، بل تتعدّاها إلى جملة ميادين يتداخل فيها العسكري بالسياسي بالاقتصادي. ويفرض السيناريو الذي سارت وفقه معارك حلب الأخيرة نفسَه (حتى ولو أفلحت المفاوضات المكوكيّة بين واشنطن وموسكو في الوصول إلى اتفاق في شأن ما تبقّى من مناطق سيطرة المعارضة في حلب) بصورة تجعل أيّ تسوية يُتفّق عليها بمثابة «إعلان استسلام برعاية دوليّة». وفي هذا الإطار أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن «الجيش السوري أوقف العمليات العسكرية في حلب من أجل إجلاء المدنيين وإدخال المساعدات الإنسانية»، مشيراً إلى أنّ «دبلوماسيين وعسكريين من روسيا والولايات المتحدة سيلتقون يوم السبت في جنيف لمناقشة الوضع في حلب».
ويخرج الجيش السوري وحلفاؤه من معركة حلب وبين أيديهم خيارات متعدّدة في ما يتعلّق بميدان الجولة المقبلة وموعدها، خلافاً للمجموعات المسلّحة التي مُنيت بضربة قاصمة في «عاصمة الشمال». وتلوح في الأفق بوادر عمليّات عسكريّة في شمال البلاد وجنوبها، وإذا ما تكرّر سيناريو حلب في ريفها الشرقي (الباب) وفي جنوب البلاد (درعا) فسيكون من نافلة القول إنّ المشهد سيغدو مهيّئاً لإبرام تسويةٍ كبرى يضبط إيقاعُها على مقاس معسكر دمشق وحلفائها على أبواب العام السابع للأزمة وفي عهد إدارة أميركيّة جديدة. وتُرجّح المعطيات المتوافرة حظوظ «معركة الباب» على سلّم أولويات الجيش السوري لا سيّما مع انعدام الثقة بثبات أي اتفاق غير مُعلن ببين موسكو وأنقرة في شأن عمليّات «درع الفرات».

أعلن لافروف وقف العمليات العسكرية في حلب لإجلاء المدنيين وإدخال المساعدات

ورغم نجاح الخطوط الحمراء الروسيّة في فرملة الغزو التركي للشمال السوري عند تخوم الباب، غير أنّ استمرار حالة الستاتيكو هناك لا يبدو مضموناً إذا ما استشعرت أنقرة أيّ فرصة سانحة توفّرها توجّهات الإدارة الأميركيّة القادمة.
ويزيد من ضرورات التوجّه نحو الباب بالنسبة إلى الجيش السوري قرب الأخيرة من عاصمة تنظيم «داعش» المتطرّف في الرقّة، علاوةً على ضرورة قطع الطريق أمام أي محاولة مستقبليّة لإعادة تهديد مناطق سيطرته في حلب وريفها. ولا تتعلّق ضرورات «تحصين نصر حلب» بالميدانين العسكري والسياسي فحسب، بل تتعداهما إلى الشق الاقتصادي الذي تعِد «العاصمة الاقتصاديّة» بتحسين موازينه بصورة كبيرة إذا ما هُيّئت لها مناخات مناسبة. وتفيد معلومات «الأخبار» بأنّ البوصلة الحكوميّة قد بدأت بالفعل التوجّه شمالاً، ودراسةَ خيارات عدّة لمساعدة عجلة الإنتاج على الدوران بسرعة، مثل إيجاد حلول لمشكلة التيار الكهربائي، والبحث عن اتفاقات تتيح تزويد المدينة بالمشتقّات النفطيّة عبر مناطق سيطرة «قوّات سوريا الديمقراطيّة». وعلاوة على ذلك، تُشكّل حلب مسرحاً مناسباً لصعود درجة على سلّم «إعلان النصر»، وهو ما بدأ الإعداد له بالفعل عبر «احتفال ضخم» قد تشهده القلعة التاريخيّة على أبواب العام القادم. وإذا ما قُيّض النجاح للخطوات المذكورة، فلن يكون مستبعداً أن تُعلن الحكومة قريباً «البدء بعمليّات إعادة إعمار حلب» من دون انتظار مآلات الحرب. وتأخذ غرف عمليّات الجيش وحلفائه في عين الاعتبار أهميّة عدم اقتصار معارك المرحلة المقبلة على تدشين جبهات ضدّ تنظيم «داعش» فحسب، وذلك للحيلولة بين «جبهة النصرة» وحلفائها وبين أي محولة ناجحة لالتقاط الأنفاس.
وعلى الرغم من أن تدشين معركة كبرى على جبهات إدلب يبدو أمراً سابقاً لأوانه، غير أن شنّ «عمليّات محدودة» على بعض محاور المحافظة يبدو احتمالاً وارداً، لا سيّما الريف الشرقي المتصل بريف حلب الغربي. ومن شأن نجاح أي عمليّة على هذه المحاور أن يحقّق أهدافاً متوازية يتعلّق بعضُها بزيادة هوامش الأمان حول حلب عبر زيادة رقعة السيطرة في ريفها الغربي، ويرتبط بعضُها بالتخفيف عن بلدتي كفريا والفوعة المحاصرتين. كذلك يُسهم هذا الخيار في إبقاء «النصرة» وحلفائها في موقع الدفاع، خاصّة أنّ غُرف «جيش الفتح» تعكف على البحث عن «حلول» لتعديل موازين القوى وإنقاذ «الروح المعنوية».
وتشير معلومات «الأخبار» إلى تضارب حاد في «وجهات النظر» بين محورين داخل مجموعات «الفتح»، يرى أوّلهما «وجوب عدم التسليم بهزيمة حلب ومحاولة شن هجمات جديدة من الخارج إلى الداخل»، فيما يدعو الآخر إلى «تجاوز حلب، وتوجيه الاهتمام نحو حماة من جديد». ويراهن أصحاب المحور الثاني على إمكانية «إحداث خرق كبير وسط البلاد» يقطّع أوصال مناطق سيطرة الجيش و«يوجّه ضربة معاكسة تنتقم لهزيمة حلب عبر إسقاط حماة».
بدوره، يواصل تنظيم «داعش» السعي إلى إحداث خرق جديد في ريف حمص الشرقي، وعلى وجه الخصوص في محيط مدينة تدمر التي أدّى تحريرها على يد الجيش وحلفائه (قبل تسعة أشهر) إلى خسارة التنظيم أيّ قدرة على التأثير في موازين القوى بعيداً عن دير الزور والرقّة. وبعيداً عن الشمال، تبدو مناطق الغوطة الشرقيّة مرشّحة لتكون ميداناً لتحرّك عسكري قريب يتوخّى «توجيه ضربة قاصمة أخرى للمعارضة»، بعد أن تبدّلت موازين القوى في محيط دمشق بشكل كبير في الشهور الأخيرة بفعل القضمات المتتالية في الغوطة من جهة، والتسويات الكثيرة التي أخرجت مناطق عدّة في محيط دمشق من حسابات الحرب. كذلك تلوح مؤشّرات عمليّة عسكرية وشيكة قد يدشّنها الجيش جنوب البلاد، يكون مسرحها درعا، وتستغلّ انشغال عدد من المجموعات المسلّحة الفاعلة في معارك ضدّ تنظيم «داعش» في حوض اليرموك.