يتعرض اللبنانيون لموجة ضغط جديدة، وكما في كل مرة، تمسك الطبقة السياسية بالمبادرة، وتسعى الى فرض معادلتها على الناس، وهاجسها الدائم: اعادة انتاج النظام!فجأة، بات الجميع مهتماً بايجاد مخرج للأزمة الرئاسية. وفجأة، تنازل اللاعبون «الكبار» عن شروطهم السياسية المعلنة، وقرروا السير في مشروع، يبدو ظاهره متعارضاً مع اهدافهم المعلنة، ما يدفع الى التساؤل: كيف تقبل السعودية، وأنصارها في لبنان، رئيساً فيه حصة كبيرة جدا لـ «العدو المركزي» بشار الاسد؟ وكيف يقبل فريق من حلفاء الاسد المفترضين تسوية تعيد المتورّطين في حرب تدمير لبنان وسوريا الى سدة الحكم؟

بداية، تجب الاشارة الى أن التسوية المقترحة اليوم، تحت عنوان انتخاب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية، انما هي عملية احتيال كبرى، لانها في حقيقة الامر، صفقة ترمي الى اعادة سعد الحريري الى رئاسة الحكومة، وتثبيت التحالف «المعمّد بالدم» بين القطبين الآخرين، نبيه بري ووليد جنبلاط. فهذا الثلاثي يمثّل العنوان الابرز الذي انتجته التسوية الاميركية ــــ السورية ــــ السعودية قبل ربع قرن. وهي التسوية التي عكست نتائج الحرب الاهلية اللبنانية، فأبقت النظام الطائفي، لكن مع ارجحية اسلامية، وتقاسم حصص يكون فيها للمسيحيين قسم تتناوب على ادارته شخصيات تمثل ما تمثل، لكنها ممنوعة من امتلاك حق النقض، الموجود حصراً بين أيدي الثلاثي المسلم.
سمعنا، وسنسمع الكثير، عن اتصالات اقليمية ودولية تشارك فيها الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية، وان هذه الدول وغيرها توفّر الغطاء المطلوب خارجياً لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وانه سيجري التفاوض مع ايران لاقناعها بالانخراط في هذه التسوية، بالأصالة عن نفسها وبالوكالة عن سوريا، وباعتبارها جهة الوصاية على حزب الله، الجهة الاكثر قوة وفعالية في لبنان. كما تكثر «الروايات» عن لقاءات واجتماعات ورسائل، وهي كلها ــــ في حقيقة الامر ــــ لا تمثل إلا «عدّة النصب» التي يلجأ اليها من يقف خلف هذه الصفقة. اما العنوان الذي يراد لأهل البلاد التعامل معه كجديد، فهو سليمان فرنجية، لا بوصفه سياسياً شريكاً في محور تعرّض، ولا يزال، للاضطهاد من الفريق الاخر، بل باعتباره الاضافة التي تشير الى موافقة محور المقاومة على تصوّر الفريق الاخر. والمشكلة، هنا، ان فرنجية لا يرى ــــ حتى اللحظة ــــ في كل ما هو مطروح سوى ان هناك فرصة كبيرة ليكون رئيساً للجمهورية.

أي فرنجية يريدون؟

لكي يستوي النقاش، يجب تحييد فرنجية عن النقاش المباشر، بمعنى ان الجانب الذي يتحمله من المسؤولية ينحصر في قبوله أداء دور العنصر المكمّل لهذه الصفقة. وهو ــــ اصلاً ــــ لا دور له، لا في مبدأ ترشيحه، ولا في تسويقه، ولا حتى في اقناع الاخرين به. والتحييد ضروري لمنع الاساءة الى الرجل الذي لم يتراجع يوماً عن موقف سياسي، فيه من المخاطرة ما يوازي تضحيات المقاومين. وهو الرجل الذي يراد استغلال رصيده الفعلي والكبير، لدى سوريا والمقاومة، لصرفه في لعبة نجسة، ابطالها هم أنفسهم الفريق الذي يمارس اعلى درجة من الوقاحة، ويرى ان في مقدوره البقاء جاثما على صدور اللبنانيين لربع قرن آخر.
يُراد استغلال الرصيد الكبير
لفرنجية لدى سوريا والمقاومة لصرفه في لعبة نجسة

ولكي تكتمل الصورة الخاصة بفرنجية، يجب مصارحته بأن من يقف خلف هذه الصفقة لم يختر منه الجانب السياسي، بل اختار الجانب اللبناني التقليدي الذي يمثل زعامة مناطقية، تسعى الى الحفاظ على مصالحها داخل الدولة، والى توسيع دائرة تمثيلها الشعبي. وهي زعامة لم تخض اصلاً معركة لتغيير النظام، ولم يدّع آل فرنجية يوماً لأنفسهم هذه المهمة. كل ما ارادوه هو تغيير سياسة النظام، وجعله اقرب الى المناخ العربي الذي يرونه حاضراً بقوة في علاقة استراتيجية مع الدولة السورية بقيادة الرئيس الاسد، ومع تيار المقاومة بقيادة حزب الله.
يقولون لفرنجية اليوم: اطمئن، نحن نريد التفاهم معك على تحييد خلافاتنا السياسية الكبرى. اذهب وقل لبشار الاسد انه ليس موضوعنا اليوم. واذهب وقل لحزب الله ان ملف سلاحه ومشاركته في القتال في سوريا امر متروك لوقت لاحق. واذهب وقل لطائفتك اننا نريد اعادة تشغيل حركة الدولة، لكن، تعالَ الينا لنتفاهم. نحن نريدك كما انت، شريكاً لنا في كل العملية. خذ حصتك كما نأخذ حصتنا. ارفض قانون الانتخاب الذي يعدّل صيغة التمثيل، واعقد معنا صفقة تعطيك نفوذا في دوائر وقطاعات، وتترك نفوذنا في دوائر وقطاعات اخرى، وكان الله يحب المحسنين!

ماذا يريدون؟

فلنعد قليلا الى من يريدون تمرير الصفقة، وهم يوهمون الناس بأنهم يقدمون الحلول لمشكلات البلاد، علما انهم كانوا ــــ وسيبقون ــــ اصل البلاء. وهو توصيف سيطاردهم، مهما فعلوا وتجبّروا وتسلّطوا، ومهما توسعت دوائر نفوذهم غير الشرعي داخل الدولة وخارجها؟
في حالة الثلاثي الحريري ــــ بري ــــ جنبلاط، هم يريدون القول، صراحة، انهم لا يقبلون تغييرات جدية في صيغة النظام او في حتى في صيغة الحكم. وهذا يعني انهم لا يريدون قانون انتخابات يشرّع النسبية التي تلغي احتكارهم لنفوذ الطوائف في الدولة ومؤسساتها.
الحريري يعرف انه في مرحلة الافول، وأنه لم يعد هناك من مكان يعيش وينتج فيه غير لبنان. انتهت ايام التمثيل الحصري للغرب وحلفائه العرب لدى سنّة لبنان، وتبدّدت ايام المجد المالي الذي كان يمكّنه من شراء الذمم والنفوس. ولم يعد لديه ما يكفيه حتى لمنافسة من عملوا معه ومع والده. أي تشغيل عادي لمؤسساته، او لحزبه، صار يحتاج الى تمويل من مكان اخر، وليس هناك سوى الدولة: الدجاجة التي تبيض ذهباً في كل نواحي الصرف والنفوذ، في الامن والسياسة والاقتصاد.
في حالة بري، الامر يتعلق بالاشكالية الكبيرة التي يعيشها بين رجاله، وداخل حركة امل نفسها. فالرجل لم يعد يفكر، أصلاً، بالزعامة الشيعية في لبنان، هو يدرك ان جمهور حركة امل نفسه طوب السيد حسن نصرالله زعيماً وناطقاً باسم «الامة». وهو، اليوم، غير قادر على حصر المشكلات من حوله، بين رجاله وقادة الحركة وشخصياتها ورجال اعمالها، داخل الدولة وخارجها. كما أنه لم ينجح في بناء مؤسسة قادرة على صياغة الدور السياسي الجديد. وهو يقف، اليوم، امام سؤال وجودي: كيف ستكون بقية الرحلة؟ مع قدر عال ، للأسف، من التوتر في مواجهة كل ما يتعرض له من نقد. والا فكيف نفسر مطاردته شاباً حمل لافتة ضده في بيروت، ومطاردته من خلال القضاء ــــ اياه ــــ الزميلين غسان سعود ورولى ابراهيم لمنعهما من اصدار كتابهما (الحاكم بامر الله)، بحجة ان معلومات مغلوطة وردت فيه، وهي معلومات صُحِّحت اصلا، فضلا عن كونها جرماً تتابعه محكمة المطبوعات. والسؤال هو: ما الذي يجعل الرئيس بري، صاحب التجربة الكبيرة والخبرة الغنية، غير قادر على تحمل مثل هذه الامور؟ وبالتالي: كيف سيتصرف لو ان الناس خرجوا معترضين على استمراره في منصبه، او على امساك مناصريه بكل شاردة وواردة في كل ما يخص الشيعة في دوائر الدولة والقطاع الخاص ايضا؟
اما جنبلاط (الذي لم نعد نعرف أي توصيف وظيفي يناسبه: زبال، بائع غاز، تاجر عقارات، مصنع ترابة، زعيم اقطاعي، بائع مكدوس ومونة بيتية...؟)، فيعرّف عن هواجسه في صورة مباشرة. فالرجل لا يريد اي تغيير يمكن ان يؤثر في موقعه الحالي. وهو، اصلاً، يعاني ارقاً يومياً لأن عملية التوريث، التي لا تواجه اعتراضاً جدياً داخل «عشيرته»، لا تزال تتعثّر، لأن الوريث لا يرغب في هذا الدور اصلاً، ولانه يحتاج الى الكثير من التأهيل، ولأن حضور الاب، يجعل الإبن في احسن احواله ظلاً يحتاج الى نور لكي يراه الناس.
وجنبلاط، في كل مرة، يعيش هاجسه كزعيم في جبل لبنان، يتذكر «الوحش» الماروني. وهو اليوم، لا تشغله سوى محاولة الموارنة العودة من النافذة، بعدما عاش اربعة عقود على مجد اخراجهم من الباب. ويرى في القانون النسبي مدخلا لشراكة اعتقد انه اجهز عليها بالدم وبالدموع تارة، وبالمال تارة اخرى. وهو يعرف ان الضغط الذي يعيشه انصاره، الموالون او الصامتون، يمكن ان يتفجر بمجرد شعورهم بأن هناك نوراً يظهر من مكان ما. والنسبية لا تتيح مشاركته في ما يدعي زعامته، لكنها ستساعد آخرين على الانتقال نحو تركيبة سياسية لا تحتاج إلى زعامته مدى الحياة. يريد للناس، في الجبل، ان يعيشوا على حكايات اسفاره واخباره والعابه.
يعرف الجميع بمن
فيهم فرنجية أن عون يمثل التجديد الفعلي في التمثيل السياسي للمسيحيين
ليس مهماً ان تعلّم هؤلاء، او وجدوا الاشغال المناسبة، او انتجوا حياة طبيعية في قراهم او بلداتهم. قد يعرب عن ضيقه من بروز تيار اصولي بينهم، لكن ما الذي يفعله لأجلهم؟ لا يريد بناء مشروع سكني يمنع الهجرة، ولا يريد اقامة مصانع او اشغال تطوّر قدرات مريديه. في بيروت، يسعى الى شراء العقارات في المناطق التي كان يسكنها دروز بيروت، لكنه لا يريد لهؤلاء ان يبقوا في المدينة. حتى في الاحياء الفقيرة، لا يريد التقدم خطوة. قبل نحو عشرين عاما، يوم فكر رفيق الحريري في مشروع «اليسار» لتطوير جنوب غرب بيروت، جاءه من لفت انتباهه الى انها مناسبة لتوفير بعض التعويضات لفقراء بيروت، من اهل الطريق الجديدة ووطى المصيطبة. فقرر اضافة هذه المنطقة على شكل لسان يوصل «اليسار» بغرب المدينة. مات المشروع مع الحريري. اما جنبلاط، فأعجبه منه ان يستولي على العقارات التي يفترض انها لفقراء الدروز في بيروت.

فليسكن المسيحيون إحباطهم!

هذا الثلاثي لا يريد ميشال عون رئيساً للجمهورية. ليس لأن موقفه السياسي متطابق مع المقاومة، إذ يدركون ان فرنجية اقرب الى المحور وأعتق منه بكثير، لكنهم يخشون عون لأن لديه فكرة، لم تطبّق بعد، حول امكانية استعادة اللبنانيين للدولة الراعية، للجيش الذي يتشكل على هيئة الناس لا على هيئة النظام، للمؤسسات التي توفر الحقوق البديهية للمواطنين بمعزل عن انتمائهم ومناطقهم، وتجعل المواطن قادرا على تحصيل حقوقه من دون الحاجة الى رئيس بلدية او نافذ او نائب او سياسي او مرجعية طائفية او دينية.
وهم يخشون عون لأنه يتمتع بتمثيل حقيقي عند المسيحيين. لا يعني هذا ان فرنجية طارئ، لكن الجميع يعرف ــــ بمن في ذلك فرنجية ــــ ان عون يمثل القوة المسيحية الابرز اليوم، وهو محل احترام عند ثلث سنّة لبنان ودروزه، ولدى غالبية شيعته. وهم يخشونه لأنه يمثل، في مكان ما، التجديد الفعلي في التمثيل السياسي عند المسيحيين، كما هي حال سمير جعجع الذي تنطبق عليه هذه الصفة، فقط، إذا أبعد الاقطاع عن منزله. ومع ان بري والحريري جاءا من تمثيل منتفض على التمثيل التقليدي للسنة والشيعة، الا انهما يتصرفان وكأن دورة الحياة انتهت عند هذا التاريخ.
هذا الثلاثي لم يهتم، اصلاً، يوم عاش المسيحيون احباطهم الشهير. وتصرف على ان من حملته التسوية الاميركية ــــ السعودية ــــ السورية الى قصر بعبدا، او الى المجلس النيابي والحكومة لاحقاً، يكفي لاستيعاب المسيحيين، لكن هال هذا الثلاثي، انه، وخلال اسابيع قليلة بعد خروج سوريا من لبنان، استعاد المسيحيون حريتهم في التعبير عن انفسهم، واكدوا ان زعامتهم، كما احلامهم، في مكان آخر.
«صفقة فرنجية»، كما ينسجها الخياطون من ابناء النظام، وبمباركة الخارج الداعم لهم، هي صفقة تهجير ما تبقى من مسيحيي لبنان. يريدون ان يقولوا لهؤلاء: اذا كانت قياداتكم السياسية قد حرّكت فيكم قوة البقاء، واذا شعرتم بأن حليفكم اللبناني (حزب الله)، او الاقليمي (سوريا وايران)، يريدان بقاءكم في المنطقة، فها نحن نريد اخراجكم منها، من دون اطلاق رصاصة.
لذلك كله، وجب القول صراحة: لا لهذه الصفقة!