كانت المناسبة دبلوماسية اجتماعية. على طريقة آخر منتديات الثرثرة السياسية في البلد المنسي دولياً. وكان الحضور من كل الانتماءات، ما يجرّ الحديث في شتى الاتجاهات. لكن عند الحديث عن دخول روسيا حربها الجديدة مباشرة في سوريا، يجهد سياسيو ما كان يوماً فريق 14 آذار، من أجل كظم غيظهم وضبط تعابير الوجه واللسان.
رسميين أو حزبيين، أو حتى دبلوماسيين، سرعان ما تطفو إلى ألسنتهم مفردات عصابية، حين يصل الحديث إلى حدث التدخل العسكري المباشر الذي دشنته موسكو في دمشق في 30 أيلول الماضي. غير أنهم سرعان ما يحاولون التقاط الأعصاب والصواب، وإعادة تشغيل العقول التبريرية، لمقاربة الأزمة بعين المكابرة نفسها المستمرة منذ خمسة أعوام: انتهى الأسد في رأيهم، منذ اندلاع أول رصاصة في شارع سوري. أما الآن، فقد انتهى بوتين أيضاً، ودائماً بحسب تحليلهم، منذ انطلقت الغارة الروسية الأولى في سماء سوريا... تحليل ينضح بالتفكير حسب التمني. لكنه لا يخلو من نقاط تستحق البحث والتدقيق.
يعتقد بعض مكونات الفريق الآذاري السابق، أن مغامرة القيصر الروسي الجديد ستضع بلاده أمام خيار من ثلاثة، أحلاها مر.
الخيار الأول، بحسب تحليل هؤلاء، أن يركب الرئيس الروسي رأسه، ويحاول تحقيق انتصار أحادي في سوريا، لصالح المحور المؤيد لبقاء الرئيس السوري بشار الأسد في موقعه، وبقاء نظامه، وبقاء سلطات هذا النظام في يده. أي أن يلعب بوتين أوراقه الدمشقية صولد على أمل تحقيق الربح الكامل. وفي هذه الحالة، يرى هؤلاء أن خسارة استراتيجية ستلحق بالرئيس الروسي. خسارة ليس أدل من عنوان لها، غير هذه الثنائية الخاسرة: أن يضع نفسه وبلاده – الآن وفوراً ــــ في موقع العداء مع العالم الإسلامي السني بكامله. ثم أن يزج حكمه ودوره ــــ بعد فترة وجيزة ــــ في خانة التنافس السلبي المتدهور والمتدحرج، مع العالم الإسلامي الشيعي أيضاً. أي أن موسكو، ودائماً بحسب الرأي نفسه، قد تتمكن من تحقيق نصر عسكري محدود في حربها السورية. لكنه نصر خاسر سياسياً على مختلف الصعد. فهو سيرتد عليها في مرحلة أولى خصومة مع كل العواصم العربية والإسلامية السنية المناوئة للأسد. كما سيؤدي في مرحلة ثانية غير بعيدة، إلى إدخالها في معادلة تجاذب وتسابق، مع طهران، حول دور كل من الأخوين الأكبرين الجديدين للأخ السوري الأصغر. وبذلك، يكون بوتين قد خسر أصدقاء، ولم يربح حلفاء.
الخيار الثاني، هو أن يعقلن القيصر هوامش مغامرته بعض الشيء، وأن يقتنع بعدم الذهاب إلى النصر العسكري الكامل. فيرضى بمنع الأسد من السقوط ميدانياً، تحت وقع ضربات القوى العسكرية المتحالفة ضده من داخل سوريا وخارجها. وهو الدافع الأساس الذي جعل بوتين يدخل الميدان السوري عسكرياً ومباشرة، بحسب أصحاب هذا الرأي. فهم يعتقدون أن تورط موسكو في المستنقع الدمشقي، لم يكن نتيجة كل الحسابات والرهانات المتخيّلة بعد تورطها. بل نتيجة إدراكها أن سقوط الأسد بات حتمياً من دون دخولها أرض المعركة بقضها وقضيضها. وفي هذه الحال، يكون بوتين قد دشن أفغانستانه الأولى، والثانية روسياً. مع الإشارة البالغة الدلالة، إلى أن كابول الأولى شكلت بداية نهاية القيصر السابق، ذي الأسماء المتحرجة سريعاً صوب الانهيار، من بريجنيف إلى غورباتشيف، مروراً بأندروبوف وتشيرننكو. بحيث تصير روسيا بوتين في موحلة استنزاف عسكري وبشري وسياسي واقتصادي، في ظرف لا يقل، برأي هؤلاء، صعوبة عن ظرف استنزاف موسكو السوفياتية. يكفي للمقارنة بين الاثنين أثر أسعار النفط على الاقتصاد الروسي برمته.
يبقى الخيار الثالث: أن يدرك بوتين انتحارية نصرة الأسد في وجه عالم كامل رافض له، وأن يعمد إلى تجنب انزلاقه إلى مستنقع الاستنزاف السوري. فلا يعود أمامه غير خيار الانسجام مع الطروحات الغربية والإسلامية والأممية، للحل الممكن في دمشق. أي أن ينكفئ عن مغامرة الانتصار العسكري الكامل، وأن ينعطف عن رمال الحرب المستدامة، فيتولى إذذاك هو بنفسه، تطبيق الحل المناوئ للأسد، من داخل سوريا الأسد بالذات. فيضرب الإرهابيين في مرحلة أولى، ثم يفرض على الرئيس السوري التنحي، ليقيم بعده سلطة سورية ائتلافية جامعة، على طريقة مبادئ مؤتمر جنيف الأول. وهو خيار، بحسب منظري العداء للأسد وبوتين معاً، معقد الطريق شائك السبل والآليات. فدونه على الأقل، كيف تقيم معادلة توازنية تلامس الاستحالة، بين مصالح كل من اسرائيل وإيران وتركيا والسعودية، فضلاً عن الغربيين والأميركيين، في تلك حقول الألغام السورية الدامية. معادلة، تحتاج إلى معجزة قيصرية، تنتهي في حال اجتراحها، إلى تحويل منجزها أداة في أيدي خصومه لا غير...
منطق شكلي لا يخلو من ابتكار في تغطية المكابرة. ولا تنقصه نقاط الترقب لمسار الأحداث المستجدة على أرض المقتلة السورية المستمرة. لولا سؤال بسيط: إذا كانت هذه هي الخيارات الوحيدة المتاحة أمام بوتين في حربه، فلماذا هذه الهستيريا الغربية والآذارية ضده وضد «مغامرته»؟! ألا يجب أن يكون أصحاب هذا التحليل الآن في حالة بهجة واحتفال، بدل التوتر ولهجات الابتذال؟! مجرد سؤال.