زمن طويل مضى على آخر زيارة قمت بها لباب التبانة. فالانقسام المذهبي الذي تجذر مع معارك «الجبل/ التبانة»، الممولة من أصحاب النفوذ هنا في طرابلس، جعل من إمكانية عمل الصحافيين الميدانيين نوعاً من حلم، وخاصة العاملين مع جهات إعلامية مصنفة «عدوة».
وباب التبانة منطقة مثخنة بجراح اليأس من «الدولة»، وبمحاولات أبنائها للخروج من زاروب الفقر والجهل، دون أن يوفق إلا المحظوظ منهم. المنطقة مترعة بذكريات سيئة وطيبة. فأما السيئة فمعظمها من صنع «الدولة» التي لم تكن بحياتها موجودة هنا، إلا لقمع الانفجار المتوقع من قهر الناس المتواصل، مع أن «أولادها» من العسكر، جيشاً ودركاً، كانوا يسكنون المنطقة على اعتبار أنها كانت، صدّق أو لا تصدّق، منطقة للطبقة المتوسطة في الستينيات والسبعينيات.
يفاجئك اللون الأزرق الذي «طرشت به البنايات طرشاً مستعجلاً». يقول لك أحدهم «أي إعمار؟ لو أرادوا فعلاً إعادة إعمار المنطقة، هل كانوا ليدهنوا البنايات هكذا وهي مخردقة؟».
نحاول الاستدلال على مكان العرض، بالقرب من سينما الأهرام المقفلة منذ «آلاف السنين». نستوقف بضعة مراهقين، فيدلّنا أحدهم كالتالي «ليكي وين الملالة تبع الجيش؟ بتكبي فيها قنبلة وبتكملي لقدام» يضحك لنفسه ولرفاقه. نفتح حديثاً «ليه الأذى يا شباب؟» يجيب المراهق الذي بدا «محبحباً»: «لأني مع جعجع». نسأله إن كان يعلم ما الذي فعله جعجع بأهل طرابلس خلال الحرب الأهلية؟ فيجيب بالنفي، لكن ما إن يسمع بعض تلك القصص، حتى يتراجع ضاحكاً «إذا هيك؟ لا... خلص، بطلت مع جعجع» ويضيف «ح صير مع داعش»!
نخبر الشباب أن يلحقوا بنا لأن هناك عرضاً مجانياً. يسألون للتأكد «ببلاش يعني؟ ما تفوتينا بالحيط!».
كراس بلاستيكية كثيرة صفت في البورة الخالية إلا من بقايا الأنقاض، تماماً أمام الحائط الذي ستعرض الأفلام عليه بانتظار حلول الظلام. أفلام قصيرة بعضها لا يتحدث العربية ذات منحى تجريبي. جو من البهجة الطفولية يخيم هنا. سرعان ما تكاثر الوافدون، جماعة «مهرجان طرابلس للأفلام» الياس خلاط وشباب جمعيته مع «مجلس شباب التبانة». عطش للنظام بدا في حركة شباب المجلس. أزياء موحدة والشاب يجول بين الأولاد محاولاً ضبطهم، عبثاً. يبدأ العرض بكلمة لالياس خلاط، يسألني صبي صغير «حجة، شو اسمو هادا؟». وإذ يعطي الاسم لجوقة الأولاد فيأخذون بالصياح باسمه وهم يصفقون. يبتسم الخطيب بلطف ويتابع... هو من جهة، وهم من جهة ثانية.

وين ملالة الجيش؟ كبّي
فيها قنبلة وكمّلي لقدام

ضجة الأولاد طاغية. يحاول مخرج بريطاني/ عراقي التحدث بالعربية فيتأتئ ويعتذر ويكمل بالإنكليزية، فلا يسمع إلا صيحات الأولاد على وقع الأكف «أبو عمر... أبو عمر». حسناً، من هو أبو عمر؟ يجيبني أحد الجالسين ضاحكاً، «سعد المصري».
السنة الماضية، كما فهمنا من المنظمين، ألغي النشاط بأمر من المخابرات. لكن، ألم يستنجدوا السنة بقوى الأمن كما علمنا؟ ينفي «لا أبداً، بس بلغنا المخابرات». ننظر الى حاجز الجيش «المشرف» حرفياً على البورة. تعتبر المنطقة هنا خط تماس بين الجبل والتبانة. يركض صبي مشاغب ويصرخ «في واحد من الجبل رمى حجر وقع على راس واحد فجّموا». بلبلة وصياح، لكن سرعان ما تنبه الجميع إلى أنه كاذب.
نكتشف بعد هنيهة أن المنطقة تخضع لنوع من قانون الطوارئ «كل ليلة في مداهمات ستنا، وهالشباب بيضلّوا يعني نايمين بعين واحدة، أول ما بيحسّوا حدا جايي بينطّوا فوق هالسطوح وبيتخبّوا... بدك تقولي في هون 3 آلاف مطلوب». ثم يضيف «عم يلاحقوا بس المطلوبين. بس جماعة الحبوب والمخدرات ما حدا عم يجي صوبن».
نسأل سيدة عن إمكانية حضورها عرضاً سينمائياً في وقت واحد مع أهل الجبل. فتسارع إلى النفي «صعبة. ما في بيت ما راح منو دم. أنا عندي 3 إخوة ماتوا بالـ 75 وهلق كمان إبني انصاب».
يقترب منك الناس، الأغلبية يسألونك إن كنت على صلة بـ«الجمعيات». لا أحد يسأل عن «الدولة». ناس اعتادت على الكراتين والدولارات الانتخابية ولا تفقه طريقة أخرى للعيش. لم يعد مستغرباً أن تعلم أن إلقاء قنبلة يكلف المشغل مجرد 20 ألف ليرة! «هيدي السنة لأنو ما في انتخابات ما شفنا كرتونة. وحياتك، حتى اللي كانوا يطببوا ما عاد حدا منهم بيّن». نعدد له «ميقاتي؟ صفدي؟ كرامي؟ كبارة؟ الحريري؟ ريفي» يقول «أبداً... ولا شي. ينتحي بي أحد الشبان جانباً «بيتي بشارع العرعور ستّنا، امبارح الولاد عم يتحمموا وقعت شقف من السقف عليهم، ما إلك كلمة على هاي الجمعية اللي عم ترمم؟» نفيت، فأعاد الكلام كما لو أنه يأمل أن أغير إجابتي «هني عم يشتغلوا صحيح، بس إنو يللي إلو واسطة بيمشّوه بالأول. ما بتعرفي أحمد الحريري؟». نسأله ألم يتقاض أموالاً من هيئة الإغاثة؟ فيقول بسخرية «اعطوني 750 ألف ليرة دفعتن للسمّان». ثم قال «شعبنا طيب. نحنا مثلاً شو إجانا من الحريري؟ خربلنا بيتنا وورط شبابنا وتركهم وتركنا وراح. بس هلق اسأليهم بيقولولك حريري وبس».
يبدأ العرض بفيلم قصير، لكن كانت هناك مشكلة بالصوت، ما ضاعف فوضى الأولاد البهيجة. أسأل أحدهم: ما بتحب السينما؟ فيرد: «مبلى. أصلاً كل جمعة منحضر أفلام عند جمعية الرواد وبيعلمونا كمان كاراتيه». ثم يستطرد «وكمان في أفلام كرتون. بس حلوة ما متل هاي بايخة».
حسناً أظن أن العرض انتهى، أليس كذلك؟