في الطريق إلى المختارة، يمكن الاستعاضة عن سماع الأخبار السياسية المملّة بقراءة آخر تغريدات النائب وليد جنبلاط المسلية. مشهده يفتح أبواب قصره أمام المواطنين لسماع طلباتهم ومحاولة خدمتهم مسلّ أكثر، وخصوصاً لدى مقارنته بزعماء آخرين يعيشون في قصور وفيلل مغلقة. التجول بين غرف القصر ومنازله المتعددة والتنقل من طابق – حقبة زمنية – إلى آخر، وحفظ الصور التي يوليها جنبلاط عنايته الشديدة، كلها توحي بجدية الأزمة غير المسلية التي تعيشها المختارة. من يولد في هذا القصر سيشعر دوماً بأنه مؤتمن على إرث كبير، ولا يمكن جنبلاط، مهما كانت ادعاءاته، ألّا يقارن بين أوضاع الطائفة الدرزية حين تسلمها، وأوضاع من يستعد لتسليمهم لابنه تيمور. بعيداً عن حساباته المالية والأرزاق التي تصاعدت أرقامها عمودياً... كل شيء انحدر.
البداية من التراجع العمودي في الحضور السياسي: بعدما كان كمال جنبلاط يُقدَّم كزعيم أممي يساهم على نحو فعال في تكوين الرأي العام العربي وقيادته لبنانياً وفلسطينياً، نجح وليد جنبلاط، في 14 آذار 2005، في الايحاء بأنه أحد القادة الأساسيين في قيادة الجمهورين المسيحي والسني إضافة إلى الدروز. حرص على توزير النائب علاء الدين ترو في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي للقول إن لديه تمثيلاً سنياً، ويحمّل النائب هنري حلو حمل الترشيح الثقيل للقول إن لديه مرشحه لرئاسة الجمهورية، لكن الوقائع الأخيرة أثبتت التحاق الطوائف العابرة للحدود بزعمائها، فيما يعجز هو عن تزعم طائفته المجزأة بين لبنان وسوريا وفلسطين المحتلة. السيد حسن نصرالله قادر على القول اليوم إنه زعيم الشيعة (وعدد كبير من أبناء الطوائف الأخرى) في لبنان وسوريا والعراق، وربما دول أخرى. ويمكن الرئيس سعد الحريري القول إنه يطمح ليكون زعيم السنة في لبنان وسوريا. أما جنبلاط، فسيسرّه أن يقال إنه زعيم الدروز في لبنان فقط. تراجع الحضور يتزامن مع التراجع في مستوى التمثيل السياسي للطائفة. فعل جنبلاط المستحيل ليؤمن لها حقيبتي الصحة والزراعة في الحكومة الحالية، بعدما أعطيت هاتان الوزارتان «فوق البيعة» للوزير الراحل مجيد إرسلان في حكومة الاستقلال، إلى جانب وزارة الدفاع. قبل الحرب، كانت الداخلية والدفاع «من حصة الطائفة الدرزية» في معظم الأحيان، إضافة إلى وزارتين خدميتين أو أكثر. خلافاً لما يظنه كثيرون، النتيجة: تراجع التمثيل الوزاري في عهد وليد جنبلاط كثيراً عما كان عليه في عهد والده. أما مجلس الشيوخ، الذي رأى بيك المختارة رئاسته له جائزة ترضية للطائفة الدرزية، فبقي حبراً على ورق الطائف. وبدا واضحاً في الأعوام القليلة الماضية، على عكس الشائع، عجزه المطلق عن أداء دور «بيضة القبان» بين المتنازعين. بناءً عليه: تسلم جنبلاط من والده زعامة وطنية ضخمة، ويستعد اليوم لتسليم وريثه زعامة مذهبية صغيرة. تسلم تمثيلاً وزارياً وازناً، ليسلم تمثيلاً أقل من عادي يساوي تمثيل حزب الطاشناق تقريباً. تسلم حزباً حقيقياً عابراً للطوائف والمناطق وناضجاً فكرياً وتنظيمياً، ليسلم مقار فارغة من الحزب والحزبيين والانتخابات الديمقراطية والفكر التقدمي والتجديد. بعيداً عن وكالة داخلية الغرب (الشحار)، لا يمكن جنبلاط الحديث عن نموذج حزبي فاعل واحد: في الشويفات يعجزون عن الاجتماع منذ أكثر من ثلاثة أشهر، وفي بيروت يطلب أحد المسؤولين من زميله أن يصمت لأنه شيعي. الأقسى من ذلك أن جنبلاط تسلّم مفاتيح المختارة من «وكلاء أعمال» علق جنبلاط صورهم على أحد الجدران لاستحقاقهم ثقة المختارة العمياء بهم، فيما يعجز اليوم عن العثور على وكيل أعمال يمكن الوثوق به.

التغير المستمر في نمط حياة الدروز والهجرة المتواصلة يمثلان تحدياً لحارس المختارة


أكثر من ذلك، يكاد جنبلاط يشعر اليوم بعجزه عن الحفاظ على ما تبقى له. برغم كل مساعيه مع «الرفاق الاشتراكيين حول العالم»، فشل في الحصول على تعهّد من اصدقائه المشتركين مع «جبهة النصرة» و»داعش»، يتيح له القول لدروز سوريا: أنا أحميكم. ومع تحوّل نعمة الجغرافيا العسكرية بالنسبة إلى الدروز إلى نقمة، بحكم وقوعهم في منطقة نفوذ حزب الله من الجهة اللبنانية، ومنطقة نفوذ «النصرة» من الجهة السورية، يعجز «أبو تيمور»، على نحو كامل، عن صياغة خطاب سياسي يتيح له قيادة الجمهور. كل ما يسعه فعله هو «التنكيت» للتلميح الى ما يفكر فيه، ليعود إلى توضيح ما أسيء فهمه. الأكيد، هنا، أن قلق جنبلاط على دروز سوريا لا يشبه قلق الزعماء الموارنة على مسيحييها. مسيحيو سوريا والعراق يستنجدون بموارنة لبنان، ولا يبالي هؤلاء بهم، فيما يتجاهل دروز سوريا جنبلاط، ومع ذلك يهجس الأخير بمصيرهم. نبهت الأزمة السورية إلى وجود سند إقليمي أو دولي أو حتى معنوي (الفاتيكان في حالة المسيحيين) خلف غالبية مكونات المنطقة، باستثناء الدروز والإيزيديين. وإذا كانت صورة جنبلاط كحام للدروز في الحرب اللبنانية قد أدت دوراً أساسياً في تكريس زعامته لبنانياً، فإن صورته كفاشل في حمايتهم في الحرب السورية ستكرس بُعده عن الزعامة سورياً.
من سوريا إلى لبنان، تواجه زعامة جنبلاط الدرزية تحديين محليين: الأول سياسي يتعلق بحفاظ الطائفة على مكتسباتها في ظل الصراع السني – الشيعي. فمقابل نجاح الموارنة في مراكمة المكاسب خلال الأعوام الخمسة الماضية، بحكم اقتناع الشيعة بأن دعمهم لعون وزارياً وإدارياً يمثل مكسباً لهم، واقتناع السنة بأن دعم جعجع يكسبهم؛ يوحي جنبلاط لجميع الأفرقاء بأنه يأخذ من دربهم ولا يُكسب أحداً. لدى البحث في الخارطة المستقبلية للتوازنات، يحكى عن إعادة الاعتبار للدور المسيحي على هامش تقاسم السلطة بين السنّة والشيعة، فيما لا يتخيل أحد ملامح دور درزي. يصعب في هذا السياق فهم العجز الجنبلاطي عن أداء دور إيجابي بين المتصارعين، في وقت ينجح فيه صديقه الرئيس نبيه بري بإدارة الحوار بين حزب الله وتيار المستقبل، برغم تحالفه مع أحدهما. أما التحدي الثاني، فيتعلق بالتغيير المستمر في نمط حياة الدروز، وبالهجرة المتواصلة من الشوف وعاليه وحاصبيا وراشيا إلى الخليج وعواصم أخرى بحثاً عن فرص العمل. ومن يدقق في أسس الزعامة الجنبلاطية يعلم أن التعاضد العائلي والمجتمع الزراعي والحاجة الكبيرة للخدمات الفردية الصغيرة أدت دوراً أساسياً في توطيدها؛ وكل من يخرج من هذه الدوائر هو «صوت ناقص» بالنسبة إلى جنبلاط.
أما الأزمة الأكبر، بالنسبة الى حارس المختارة، فتتعلق بمستقبل الزعامة الدرزية: ابنه تيمور. كل من يقارنون «على الطاير» بين جنبلاط غداة اغتيال والده وتيمور اليوم، لتحسين صورة الأخير، لا يعلمون شيئاً. سائق الدراجة النارية كان منغمساً بالكامل بالسياسة ومسحورا بالعمل الأمني والعسكري وشديد الحماسة والاستعجال لأداء دور أكبر في الحزب التقدمي والحياة السياسية، بعكس تيمور تماماً: لولا مراعاته مشاعر والده واحترامه المنزل الذي ولد فيه لكان هذا الشاب اليوم غارقاً في الموسيقى في إحدى دول أوروبا الإسكندنافية، أبعد ما يكون عن السياسة والواجبات الاجتماعية والتزلف الحزبي. مر الأب بعشرات المعموديات السياسية والعسكرية قبل أن يكرس ثقة طائفته به، فيما لا تنتظر تيمور أيّ تحديات من هذا النوع. وجد وليد جنبلاط، بين عامي 1990 و2005، حاضنة سياسية محلية (الرئيس رفيق الحريري) وإقليمية (سوريا) تدلله وترعاه، فيما يعجز جنبلاط عن تأمين هذه الحاضنة ما دام يرسل تيمور إلى السعودية قبل الظهر، وإلى مهرجان لحزب الله بعده.
لحفاظ النائب وليد جنبلاط على غرفة كمال جنبلاط كما هي طوال هذه السنوات، وإبقائه مقتنياته لحظة اغتياله، في صندوق كرتوني، دلالات طبعاً، وكذلك الحضور الكبير لوالدته حتى بعد وفاتها. إلا أن الصور التي تملأ الجدران أكثر شفافية في التعبير عن حالة الزعامة الجنبلاطية: من رفع صور سلطان باشا الأطرش وجمال عبد الناصر وياسر عرفات في أيام غابرة، يضع اليوم فوق إحدى الطاولات كادرين؛ في الأول صورته والسفير الأميركي السابق جيفري فيلتمان، وفي الثاني صورة فيلتمان وحده على نحو لا تفعله زوجة فيلتمان نفسها. «هناك كنا وهنا أصبحنا». من لوّن أحد جدران القصر بلوحة رائعة لآباء الاتحاد السوفياتي تقديراً لعطاءاتهم، يرفع اليوم في المختارة صورة الرئيس ميشال سليمان تقديراً لعطاءاته. ليست المشكلة هنا أبداً بسليمان، إنما بنتيجة المقارنة بين ما كانت المختارة عليه في يوم من الأيام، وما هي عليه اليوم. كان الاتحاد السوفياتي سند المختارة العسكري والسياسي والأمني والثقافي والاجتماعي والصحي والتربوي، فيما يسندها الفراغ اليوم.