لا شك أن ترجمة نصّ أدبي ألماني من نصوص الحداثة إلى اللغة العربية أمر شاق فعلاً، لأنّ هناك فروقاً واختلافات عديدة تتعلق بتاريخ اللغتين وجغرافيتهما وموسيقاهما وإيقاع جُملهما. وفي حالة غونتر غراس (1927 ــ 2015) فإننا نلمس ملمحاً آخر لهذه الصعوبة يكمن في أنه استحدث أسلوباً جديداً في القصّ، يستند إلى ما يُسمى روايات الفروسية التي نعرفها من خلال الكاتب الإسباني الساخر سيرفانتس (ثيربانتث) أو الألماني هانس ياكوب غرملسهاوزن. لكنّه عالج هذه المرّة وضعاً لم يكن الاقتراب منه سهلاً آنذاك، أي في عام 1959 عندما صدرت الرواية الأولى لغونتر غراس التي اشتهرت باسم «طبل الصفيح»، وهو تاريخ ألمانيا، السياسيّ، بالدرجة الأولى، إبّان الحقبة النازية وما بعدها. وكان غراس يشكو من تعرّض اللغة الألمانية للدمار بسبب الإسقاطات القومية النازية عليها واعتبارها لغة عرقية صافية، بالإضافة إلى حذر الكُتّاب الألمان ما بعد الحرب من استخدام مفردات مثل الأمة الألمانية، والعرق، والقومية، ونقاء اللغة، والنصر العسكري، وما إلى ذلك من العبارات التي كانت متداولة بكثرة في الحقبة النازية. وباستثناء النصوص التجريبية العبثية للكاتب آرنو شميدت، المجايل لغراس، لم نرَ، على حدّ معرفتنا، روايةً كتبت بهذا القدر من الانغلاق والتعقيد مثل رواية «طبل الصفيح» بعد الحرب العالمية الثانية.
وتطلّبت عملية تفكيك ألغازها والإمساك بإيقاعها الموسيقيّ المنتظم الذي التزم به الكاتب منذ بداية الرواية حتّى آخر عبارة فيها جهوداً كبيرةً وأعواماً طويلة. وكان الهاجس الأساسي بالطبع تقديم عمل فنّي متكامل لروائيّ ذاع صيته في أرجاء العالم برمته، لدرجة أنّ الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز صرّح ذات مرّة بأنّ روايته «مئة عام من العزلة» ما كان لها أن ترى النور لولا رواية «طبل الصفيح».
غراس يعدّ كاتباً متعدد المواهب، فهو روائي وقاص وشاعر ومؤلّف مسرحي ورسّام ونحّات وخطيب سياسي. رافق المستشار الألماني فيللي براندت في حملاته الانتخابية منذ مطلع الستينيات. وكان غراس قد قرأ أوّل فصلين من روايته هذه أمام «جماعة 47» الشهيرة التي ضمّت كبار الكتّاب الألمان في حقبة ما بعد الحرب، ومنهم غونتر آيش ومارتين فالزر وهاينرش بول وإنغبورغ باخمان وهانس ماغنوس أنتسنسبيرغر... وغونتر غراس بالطبع الذي فاز بجائزة المجموعة عام 1958 بعد تلك القراءة. وأدرك غراس ساعتها أنّ ألمانيا كانت في أمسّ الحاجة إلى مراجعة الماضي القومي وتعامل السلطات النازية مع الأدباء، فضلاً عن تأهيل ألمانيا على الصعيد الثقافي، وخاصةً بعد ذلك الحكم المطلق الذي أطلقه الفيلسوف الألماني تيودور أدرونو، وهو أن «كتابة الشعر تعتبر عملاً بربرياً بعد محرقة أوشفيتس». فكان الأدباء الألمان الذين شهدوا الحرب العالمية الثانية أو اشتركوا فيها جبراً أو طواعيةً، يحاولون التخلّص من تهمة التواطؤ مع النازيين وتأييد سياسة الحرب والتشريد والإبادة الجماعية والتنكّر للأدب والأدباء لأسباب عرقية وقومية. وكان البعض يسخر من كتّاب ما بعد الحرب هؤلاء ويصفهم بأدباء «الأنقاض» وهي عبارة تحاكي محاولات ملايين النساء الألمانيات في إعادة بناء بيوتهن التي دمرتها الحرب. وقد سألتُ ذات مرّة غونتر غراس شخصياً عن مصطلح «ساعة الصفر»، فقال إنّه يشعر بالامتعاض من هذا المصطلح، إذ ليس هناك ساعة صفر بمعنى البداية الجديدة، بل إنّ هناك محاولة حثيثة لتكملة ما حدث قبل الحرب العالمية الثانية.

صرّح غابرييل غارسيا ماركيز
بأنّ روايته «مئة عام من العزلة»
ما كان لها أن ترى النور لولا رواية «طبل الصفيح»

ويتسم أدب غراس، وربّما على العكس من تخطيطاته ورسومه التي لم تبلغ المستوى الذي بلغه نثره المتميّز، بقوّة العبارة وإحالاتها التاريخية والفكرية والسياسية العديدة؛ غير أنّ الصعوبة بحدّ ذاتها لا يجوز أن تكون حائلاً دون نقل الإبداع الأدبي العالمي، إنما قد يجد فيها المترجم متعةً فكريةً وتحدياً لغوياً لا مناص من خوض غماره.
وعندما تعرفتُ إلى غونتر غراس شخصياً قبل حوالى 15 عاماً، بدعوة من ناشره «شتايدل»، أمضيت مع حوالى 20 مترجماً جاؤوا من جميع أنحاء العالم أربعة أيّام كاملة، كنت أراقب خلالها غراس في كلامه وشرحه التفصيلي لمعاني الكلمات الغامضة وهدوئه وتعامله الحذر واللطيف أيضاً مع المترجمين وخاصةً المترجمات القادمات من الدول الاسكندينافية، فكان يخوض معهن أحاديث طويلة، فأدركت بعد ذلك السرّ وراء هذا الأمر. فغراس كان يشكو من عدم دقّة الترجمة وإسقاط عبارات كاملة من روايته «طبل الصفيح»، وخاصة في ترجمتها إلى اللغة الإنكليزية التي قام بها المترجم الأميركي رالف مانهايم الذي ترجم أيضاً كتاب «كفاحي» لهتلر. وطلب غراس من ناشره أن ينظّم ورشة عمل يشارك فيها الكاتب نفسه والناشر ومحقق أعمال غراس ومساعدوه، بالإضافة إلى المترجمين، لشرح العبارات والصياغات غير الواضحة من أي كتاب جديد يصدر لغراس. بيد أنّ الهدف الحقيقيّ لهذا اللقاء كان ينطوي على حسّ تجاريّ ودعائيّ كبير. فغراس يريد أن يضمن بأنّ كتابه سينشر في عشر لغات أجنبية على الأقل، إلى جانب لغته الأصلية، وخاصة في اللغات الاسكندينافية، لكي يصل الحديث عنها إلى أسماع لجنة «نوبل للآداب». وقد نجحت هذه الخطّة بالكامل، فحصل غراس عام 1999 على هذه الجائزة المرموقة، ليقول في ما بعد إنّ جائزة «جماعة 47» كانت أهم من جائزة نوبل بالنسبة إليه، وهذا كلام لا يتمتع بأدنى صدقية في الواقع.
وبما أنّ غونتر غراس كاتب سياسيّ ملتزم، ولعّله آخر الكتّاب الملتزمين في ألمانيا بعد الحرب، وخاصةً أنّ الأدباء الذين كانوا محسوبين على اليسار من أمثال فالزر وإنتسنسبيرغر على سبيل المثال، باتوا يتنصلون شيئاً فشيئاً من ماضيهم السياسي حتى أصبحوا من المحافظين المقربين من «الحزب المسيحي الديموقراطي» ودوائره، فإننا نحاول أن نتعرّض هنا بالتفصيل لاعتراف غراس بأنه كان عضواً في الفرق القومية النازية المعروفة باسم Waffen-SS (فافن أس أس)، وهي وحدات خاصة مسؤولة عن ارتكاب جرائم وحشية إبّان الحرب العالمية الثانية، ومنها قتل الجنود الفارين من المعارك. ونعتقد أنّنا، باعتبارنا منفيّين أيضاً وضحايا للأنظمة العربية القمعية، لا بد من أن نناقش البعد الأخلاقي للأدباء، لا لكي نكون حكّاماً عليهم، بل لأنّ هناك ضوابط وقيماً إنسانية مشتركة يجب الالتزام بها، ولأنّ غراس نفسه كان يتصرّف وفق منظومة هذه النظم الأخلاقية، ما جعلنا نختار ترجمة أعماله إلى اللغة العربية. وكان هدفنا بالطبع إطلاع القارئ العربي على الأعمال الأدبية الألمانية المعاصرة والتي حظيت بشهرة عالمية واسعة، لكنّنا وجدنا نفسها في موقف لا نحسد عليه، فقمنا بعد اعتراف غراس المتأخر بمراجعة ماضي الكاتب نفسه وموقفنا منه كذلك.
ففي عام 1969، شارك غونتر غراس في الحملة الانتخابية للحزب الاشتراكي الديموقراطي بقيادة فيللي براندت الذي كان غراس يرتبط معه بعلاقة وثيقة، ترجع أسبابها بدرجة أساسية إلى ماضي براندت نفسه الذي كان من المقاومين البارزين للحكم النازي. وألقى غراس عشرات الخطابات لصالح حزب براندت في حملة الانتخابات التي ساهم فيها أيضاً رفيق غراس ووزير الاقتصاد في فترة الائتلاف الحكومي الكبير كارل شللر، الذي شنّ حملة على الخصم السياسي المنافس كورت كيسنجر، فتعرّض للماضي النازي لزعيم الائتلاف الحكومي آنذاك المستشار كيسنجر، والذي كان نائباً لمدير قسم الدعاية في وزارة الخارجية الألمانية في العهد النازي. ويبدو أن وزير الاقتصاد شيللر نسي ماضيه الذي كشفت عنه مجلّة «دير شبيغل» في عدد حمل صورة شيللر على غلافه. فكتبت المجلّة تقول إنّ أستاذ الاقتصاد والوزير المرموق كان قد تطوّع عام 1933 في قوات «العاصفة» النازية SA وهو في سنّ العشرين، وانتمى إلى اتحاد الأساتذة النازيين، ثم أصبح عضواً في «الحزب القومي الهتلري». وأثناء الحرب العالمية الثانية، أوكلت إليه من قبل قيادة الجيش الألماني مهمة كتابة تقارير تحليلية عن الثروات المعدنية لمختلف الدول الأوروبية.
وهذه الحقائق كلّها كانت معروفة أيضاً بالنسبة إلى غونتر غراس، لكنّه مع ذلك كتب مباشرةً إلى رفيقه في «الحزب الاشتراكي الديموقراطي» شيللر يطلب منه الكشف العلني عن ماضيه المثير للاختلاف. ونشرت جريدة «فرانكفورتر ألغماينه» عام 2006 نصّ رسالتين كان غراس قد بعث بهما إلى زميله وزير الاقتصاد، الأولى في 1969 والأخرى بعد ذلك بعام تقريباً. وجاء في الرسالة الأولى: «أودّ أن أذكّرك يا عزيزي كارل شيللر مرّة أخرى بحديثنا السابق، وأرجو منك أن تتكلم في أقرب فرصة ممكنة، وعلناً، عن ماضيك السياسي أثناء الحقبة النازية. فجيل ما بعد الحرب لا يعرف عن ذلك سوى التسويف والتهوين غير المقبول الذي مارسه المستشار الألماني كيسنجر عندما قال إنه لم يكن مقتنعاً بعضوية الحزب النازي ولم يكن انتهازياً قطّ. وأرى من الأفضل لو أنّك تعترف صراحةً بغلطتك. وحينئذ ستخفف العبء عن كاهلك، وسيكون ذلك بالنسبة إلى الرأي العام مثل الصنيع الجميل الذي تقدمه الرعود فتجعل الجوّ صاحياً».
وكتب غراس بعد ذلك بأقل من عام إلى شيللر، يناشده مرّة أخرى أن يعترف بماضيه الذي اعتبره «خطأً لا يغتفر» وشدد قائلاً: «كنت قد طلبت منك، وبإلحاح شديد، أن تكشف للرأي العام سرّ علاقتك بتنظيم الحزب النازي، وأن تفعل ذلك بمبادرة ذاتية شجاعة، في الوقت المناسب، وبدون أسلوب استعراضي على طريقة أنني اعترف بذنبي، بل بنبرة واقعية جديرة بك. لكنك بدلاً من ذلك أخذت تهاجم كورت كيسنجر، وبحقّ من حيث المبدأ، فتناولت نشاطه في زمن النازية، وبالأخص عمله الدعائي في الرايخ الثالث، لكن من دون أن ترجع أنت نفسك إلى ماضيك. فقد اختلفت المقاييس وانكشفت العورة. ثم إنني فكرت طويلاً، كيف يمكن لسياسي بعيد النظر وكبير الخبرة وموهوب ومتواضع ويظهر تفهماً لشرائح واسعة من الناخبين، لكنه يبدو الآن، ومن خلال تفصيل جزئي، ضيّقاً ومتشنجاً جدّاً في ما يتعلّق بالحالتين اللتين ذكرتهما للتوّ». وأضاف غراس، كأنه يخاطب نفسه، أيضاً بأنه عثر «على نصف إجابة يمكن أن تعطي تلميحاً إلى التصرف المعهود للمثقفين، وهي عجرفة العارف السيئة الصيت. ولم يكن الأمر مجهولاً لي، لأنني، وأثناء التحضير لمسرحيتي «بليبيير» Plebejer، اضطُررت إلى التعامل لمدة عامين مع «كوريولان» شكسبير والمواقف الثقافية لبرتولد برشت، وتمكنت من مراقبة هذه العجرفة التي كانت تتلبسني أحياناً». ويبدو أن هذا الإيحاء كان اعترافاً ضمنياً بماضي غراس الملتبس وتطوّعه في فرق الحرس النازي الخاص «فافن أس أس»، وكتمانه سرّ هذا الانتماء أكثر من ستين عاماً، قبل أن يكشف عنه في سيرة حياته «أثناء تقشير البصل» الصادرة عام 2006.
ومن المفارقات التي أشارت إليها جريدة «فرانكفورتر ألغماينه» آنذاك، أن غراس كان يناشد زميله الوزير بخفض الضرائب عن كاهله، فبدلاً من أن يدفع عام 1965 ستين ألف مارك، طلب من الوزير أن يساعده لكي يحسم منها ثلاثين ألفاً، لأن غراس كان يمضي كلّ يوم ساعتين أو ثلاث ساعات مع الصحافيين الألمان، فيمكن أن يحتسب هذا العمل «نشاطاً ثقافيّاً» لمصلحة الألمان جميعاً على حدّ تعبير غراس. والآن، فقد رحل الكاتب الأشهر في ألمانيا في حقبة ما بعد الحرب وأثار نبأ وفاته المفاجئ، على الرغم من تقدمه في السنّ، صدمةً كبيرة على صعيد ألمانيا والعالم، بما فيه العالم العربيّ الذي يُحسب لغراس تضامنه معه وموقفه الواضح إزاء إسرائيل، حيث قال عنه «اتحاد الكتّاب العبرانيين» إنّه كان «يشنّ حملات صليبية حديثة على الدولة اليهودية». وفي نهاية المطاف، فإن التاريخ النقديّ وحده الذي سيُعيد تقويم غونتر غراس كاتباً وإنساناً.