حالما اندلعت الأزمة السورية، سارعت المحطات الإخبارية العربية التي كانت لها مكاتب في دمشق إلى توضيب أغراضها والعودة إلى مقار عملها الأساسية، خصوصاً بعدما تظاهر العشرات من مؤيدي النظام أمام بعضها مندّدين بتحيّزها في تغطية الأحداث. وهو ما حدث أمام مكتب «الجزيرة» على سبيل المثال.
مرّت أسابيع سجّلت فيها بعض الفضائيات العربية خرقاً كبيراً في معايير العمل الإعلامي عندما اعتمدت سياسة «شهود العيان» التي اتُهمت بأنّها الذراع الطولى لتزوير الحقيقة في سوريا، لكن «الجزيرة» ردّت على هذه الاتهامات في أحد منتدياتها بالقول إنّها «تعرف في معظم الأحيان هوية هؤلاء الأشخاص وصدقيتهم وستبقى سياسة شهود العيان خياراً استراتيجياً لن نتراجع عنه».
هكذا، كانت نهاية التبريرات، وبالفعل استمرت التغطيات على هذا المنوال حتى ثبت في أماكن عدة تحوّل استديوهات بعض المحطات إلى غرف عمليات نسّقت مع المعارضة السورية المسلحة في أكثر من مكان. ثم راحت هذه المؤسسات تُرسل مذيعها إلى المناطق الخارجة عن سيطرة النظام لإجراء تقارير ميدانية، كما حصل مع «الجزيرة» عندما أر سلت غادة عويس إلى الشمال السوري، وهو ما كرّرته قناة «الآن» عندما صوّرت مذيعتها جنان موسى تقارير ميدانية بالقرب من مطار «منغ» العسكري (ريف حلب)، لتعيد قنوات عدّة التجربة. لكن آخر ما حصل، اعتبره البعض انتهاكاً إعلامياً جديداً تسجله المحطات العربية في سوريا، بعدما اتخذت مجموعة من الناشطين مراسلين معتمدين لها في المناطق التي يعيشون فيها، وإذا بها تمنح فرصاً ذهبية لبعض الشباب السوري الذي لم يحلم سابقاً لا بعمل إعلامي ولا بظهور تلفزيوني واحد.
إذاً، راح بعضهم يتعاطى مع من حوله بمنطق النجومية بداعي أنّه سجل حضوره الإعلامي عبر أشهر المحطات الإخبارية! لكن كيف يتم اختيار هؤلاء المراسلين، وهل يؤخذ التحصيل الدراسي بعين الاعتبار، أم أن الوصول إلى الأخبار الميدانية يبرّر الاختيار العشوائي؟ وما الذي يميّز هذه التقارير عن تلك الخاصة بمحطات النظام السوري؟ أو بمعنى آخر، كيف يمكن لتلك التقارير أن تحافظ على الحد الأدنى من موضوعيتها، وهي تُصنع من مناطق تسيطر عليها الفصائل المسلحة، تماماً مثلما تفعل المحطات التي تبث من مناطق لا تزال تحت سطوة النظام؟
أحد إعلاميي قناة «الآن» الذي رفض الإفصاح عن اسمه، يجيبنا قائلاً: «العاملون حالياً مع المؤسسات الإعلامية يخضعون جميعهم ومن دون استثناء لدورات تدريبية تطلعهم على آليات العمل الإعلامي، وأساسياته، وطريقة التعاطي مع الكاميرا، ويتم ذلك إما بإدخال مجموعة من الإعلاميين والمدرّبين المحترفين إلى الأماكن التي يبثون منها، أو من خلال استقدام هؤلاء المراسلين إلى مناطق حدودية مع سوريا»، مضيفاً: «وفي أسوأ الأحوال، يتم تقويم عملهم بشكل آني بعد كل تقرير من خلال التواصل الإلكتروني أو الهاتفي. أما الناشطون التابعون إلى مؤسسات غير إعلامية تتخذ بغالبيتها من تركيا مقرّاً لها، فلا يخضعون إلى تدريب. عموماً، لا تقف المؤسسات عند الاختصاص الأكاديمي لصعوبة توافر الشروط المثالية للمراسل في مثل هذه الحالات».
بناءً على هذه القاعدة، بتنا نشاهد تقارير لأحمد عاصي على «الآن» من إدلب، ولعبد الرحمن الدمشقي وسما مسعود من القلمون والشمال السوري على قناة «العربية». أما الحصة الكبرى، فكانت لصالح «الجزيرة» التي يعمل معها فريق من المراسلين منهم: محمد كناص في إدلب، ورأفت الرفاعي في مناطق عدّة، وأمير العبد في عين العرب، وفادي جابر وميلاد فضل في مناطق مختلفة وفي ريف دمشق، إضافة إلى سمارة قوتلي في غوطة دمشق، وتحديداً في مدينة دوما.
نحاول التواصل مع بعض المراسلين الميدانيين للتعرّف إلى آلية عملهم مع محطاتهم ومدى خبرتهم في العمل الإعلامي، وكيفية محافظتهم على الموضوعية في نقل الخبر والصعوبات التي تواجههم. فيرد علينا مراسل «الجزيرة» في إدلب محمد كناص متهماً إيّانا بأنّنا نجهل ألف باء العمل الصحافي، وأنّ الممانعة والمقاومة التي تدّعيها «الأخبار» في سياستها التحريرية لا تناسبه! نسأل عن تحصيله الدراسي وعن الساعات التي أمضاها في العمل الإعلامي؟ فيبادرنا برفض إجراء حوارات إعلامية هذه الأيام! ثم تفشل كل محاولاتنا بمعرفة آلية عمله مع المحطة القطرية، قبل أن يقوم بحذفنا نهائياً عن صفحته الشخصية على فايسبوك التي تواصلنا معه من خلالها. لكن الأمر يختلف مع مراسلة المحطة نفسها سمارة القوتلي التي تكشف لنا أنّها لم تدرس الإعلام، إنّما تخرّجت من «المعهد الطبي» في دمشق، وأنّ ظروف الحرب دفعتها إلى القبول بالعمل الإعلامي بهدف «إيصال حقيقة ما يجري» في واحدة من عواصم «الثورة السورية». لكن كيف تم اختيارها للعمل وما هي الطريقة المتبعة في إيصال رسائلها الميدانية، وهل تعمل بتقنيات حديثة زوّدتها بها «الجزيرة»؟ ترفض القوتلي الإجابة، معتبرة أنّ هذه «أسرار لا تخوّلها القناة بالإجابة عنها».
حسناً، هل ما زالت تؤمن الشابة السورية بسياسة «الجزيرة» في تغطية أخبار بلادها، وماذا عن تراجع الخبر السوري عبر شاشاتها؟ تؤكد القوتلي أنّه «نعم أؤمن بالسياسية التحريرية لقناة «الرأي والرأي والآخر»، وأعتقد أنّ تراجع الخبر السوري يرتبط بأهمية وطبيعة الأحداث التي تحصل في هذا البلد. وإذا كان هناك تقصير فأظن أنّ السبب يعود إلى شح المعلومة الدقيقة وتقصير الناشطين على الأرض، وليس بسبب تقصير المحطة». نذكرها بأنّ العمل في هذه الظروف هو موت محتمل في أي لحظة، فتجيب: «ليس هذا المهم، إنّما الصعوبة الحقيقة التي تواجهني هي عدم تقبل فكرة الكاميرا من المواطنين الذين ما زالوا متمسكين بالعيش هنا، لأنّهم يعتقدون أن مجرّد دورانها أمامهم يعني خطر تعرّضهم للقذائف والقصف بشكل مباشر».
في الحروب تسقط القيم ويضيع المنطق، لذا يبدو أنّ بعض المحطات العربية اعتبرت أنّه من الترف التقيّد بمعايير العمل الإعلامي في ظل هذه الظروف. هكذا، أعطت الأولوية لحصولها على المعلومة التي تخدم سياستها، حتى ولو كلّفها ذلك تسليم الميكروفون لكل من تسوّل له نفسه، بشرط أن يخدم أجنداتها المعدة سلفاً.