لم يكن مفاجئاً ان تنشر مجلّة «نيويورك تايمز» في عدد الغد (15 شباط، 2015) مقالة طويلة ومسهبة (نُشرت على الموقع قبل صدور النسخة الورقيّة) عن اغتيال رفيق الحريري للكاتب في «يديعوت إحرونوت» رونن برغمان، والذي يعدِّ— يا للصدفة — تاريخاً (رسميّاً) للـ«موساد». طبعاً، لم يأتِ الرجل بجديد، ولم يأتِ بشيء من عنده، لكنه شارك عن طريقه فريق 14 آذار في تسجيل ذكرى الاغتيال. من المحتّم انه بنى كل الرواية على الروايات البوليسيّة المتحوّلة والمتغيّرة لأعضاء فريق الحريري الإعلامي (وتستطيع بعد قراءة المقالة ان تحزر اسم الإعلامي الحريري الذي تحدّث وأفضى بما عنده للصحافي الإسرائيلي).
تقرأ المقالة وتتيقّن ان آل الحريري ليسوا أبعد عن العدوّ الإسرائيلي من آل الجميّل عام 1982. ومحكمة الحريري الدوليّة في لاهاي لم تلق تجاوباً أو تغطية من الإعلام الغربي الحريص دوماً على خدمة المصالح الأميركيّة في الشرق الأوسط. حتى هؤلاء ملّوا من القصّة وتوجّسوا من تغطيتها لما اعترت تحقيقات ومحاكمة الحريري من تغيّرات في وجهة الاتهام وفي الروايات البوليسيّة التي تصلح لأفلام الـ«أكشن» الهابطة من الإنتاج اللبناني في الثمانينيات.
فريق الدفاع في
المحكمة الحريريّة في لاهاي قد يصلح في مسرحيّة كوميديّة عن المحاكمات

وتبدأ المقالة بدفق من الدموع عن «أبو عدس» لأن الإسرائيليّين — كما لاحظ رفيق — يذرفون الدمع غزيراً على حياة العرب مع انهم يقتلون العرب بعشرات الآلاف في مجازر لم تتوقّف منذ نشوء الحركة الصهيونيّة في القرن التاسع عشر. والاهتمام الإسرائيلي هذا بقضيّة الحريري مشبوه إذ انه يشي بتعاون دعائي وثيق ما بين آل الحريري (توابع آل سعود المتعاونين جهاراً مع العدوّ الإسرائيلي) والعدوّ. أي ان الصحافي الإسرائيلي كان في مقالته الطويلة هذه يوبّخ الإعلام الأميركي لتجاهله محكمة الحريري. وهناك مكتب لكل من «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» في بيروت لكن المكتبين مشغولان بتغطية بطولات الجيش السوري الحرّ وهما — وإن نقلا وجهات نظر حركة 14 آذار بحذافيرها وإن لم يشغّلا إلا من شاطر حركة 14 آذار توجّهاتها — أهملا تغطية محكمة الحريري أخيراً.
يريد الاهتمام الإسرائيلي العدوّ بمحكمة الحريري أن يعيد تركيز الضوء على جريمة يريد ان يعزوها إلى حزب الله في الوقت الذي تعد فيه الأمم المتحدة تقريراً (لن يكون شافياً أو كافياً خصوصاً أن الحكومة الأميركيّة أوكلت المهمّة هذه المرّة إلى قانونيّة اميركيّة كي لا تفلت الإدانة عن إطارها المُعدّ لها) عن جرائم إسرائيلي في غزة. الاهتمام الإسرائيلي المُستجدّ هو جزء من حرب دعائيّة شاملة شنّها العدوّ الإسرائيلي ضد حزب الله (وبأدوات لبنانيّة وسعوديّة تحديداً) من أجل ان يكسب في الإعلام ما خسره على أرض المعركة. ويتزامن الاهتمام الإسرائيلي بالقضيّة مع أمريْن: تفكّك عرى تحالف 14 آذار وتهافت برنامجه ونفور الإعلام الغربي منه بعد تكسّر وعوده وإفلاس طموحاته. كما أنه يتزامن مع تنامي القلق الإسرائيلي (المُعبّر عنه في الإعلام الصهيوني العالمي) من تزايد القدرات القتاليّة لعناصر حزب الله جراء القتال في سوريا. يدرك العدوّ ان تجربة القتال لعناصر الحزب في سوريا — بصرف النظر عن اتفاق أو اختلاف المرء معها — تكسبه مهارة قتاليّة فريدة وجديدة لم يكسبها من قبل في الجنوب اللبناني لأنها تشمل في ما تشمل القدرة على قتال طويل ــــ وليس قصيراً على طريقة حرب العصابات ــــ كما انه يشمل طرد مقاتلين إلى أرض أخرى والتدرّب على الحفاظ على أرض مكتسبة (قد يزيد هذا من قلق العدوّ من كلام حسن نصرالله عن إرادة لنشر قوّات للحزب في الجليل المحتل في المعركة المقبلة مع العدوّ).
ورواية العدوّ عن اغتيال الحريري ترجمة إلى الإنكليزيّة لسرديّة الحريري الأخيرة، لأن تلك السرديّة تغيّرت وتغيّرت كثيراً عبر السنوات. نرجع إلى تقرير مليس الأوّل كي نضيع في رويات عن ضلوع «الأحباش» والحزب السوري القومي الاجتماعي ومنظمّة حزب البعث و«الحرس الجمهوري». وبعد أشهر فقط من اغتيال الحريري، أبلغني رضوان السيّد أن عائلة الحريري على قناعة أن أحمد جبريل هو وراء الإغتيال لأنه «خبير متفجّرات». إن تسلسل الإتهامات من قبل عائلة الحريري هو أبعد من استخفاف بحياة وسمعة البشر بل هي تشير إلى مؤامرة خبيثة تورّطت بها عائلة الحريري منذ البداية، ومنذ وصول الطموح الحريري إلى السلطة. ويحاول الصحافي الإسرائيلي في بدء مقالته إبهار القارئ (والقارئة) في أميركا عبر ضخ التفاصيل التي باتت مُكرّرة ورتيبة للقارئ العربي، لكنها تبقى مجهولة للقارئ الأميركي بحكم تجاهل الإعلام الأميركي للتحقيق والمحكمة باستثناء العناوين الكبيرة عن ضلوع الضبّاط الأربعة حيناً وعن ضلوع بشّار الأسد شخصيّاً حيناً آخر، إلى ان أستقرّت الحدّوتة على مسؤوليّة حزب الله عن الاغتيال. وبالرغم من ان الصحافي الإسرائيلي حاول ان يظهر بمظهر المُدقّق في الحقائق والروايات، فإن روايته يشوبها كثير من الأخطاء، ولا ينسب ما يروي إلى مصادره. فيقول مثلاً إن عائلة أبو عدس لم تصدّق الرواية عن مسؤوليّته. هل قالت له ذلك؟ هل أتى مراسل «يديعوت أحرونوت» إلى بيروت وهل عرّج على الطريق الجديدة، أم ان مكتب الحريري الإعلامي قام بالمهمّة بالنيابة عنه؟ لم يوضح لنا. وهو لم يعلن من سمير شحادة الذي يصول ويجول في لبنان (يظنّ أنه لا يزال في كندا).
والإسرائيلي هذا يقول إن عدداً من الشهود تعرّضوا للتهديد، لكنه لا يقول لنا من هم هؤلاء الشهود، ولا يقول إن هناك من الشهود لدى الطرف الآخر من الذين تعرّضوا للتهديد والتعذيب. هذا لا يتفق مع السردية الإسرائيليّة ــــ الحريريّة السائدة. ويحاول الكاتب ان يضفي مصداقيّة على عمل المحكمة عبر القول إنه لم يكتشف غير خطأيْن مطبعيّيْن في تقارير المحكمة، كأنه يريد ان يقول لنا: يجب ان نقبل مصداقيّة المحكمة لأن تقاريرها خلت — إلا مرتيْن، بحسب تعداده — من الأخطاء المطبعيّة. ويعترف الكاتب بأن ليس هناك من دليل واحد لدى المحكمة عن تورّط أي كان في ارتكاب الجريمة وأن كل الدلائل هي ظرفيّة — تلك التي لا تدين حشرة في المحاكم الأميركيّة. لكن الرجل الأبيض يتساهل في المحاكمات عندما يريد ان يدين الملوّنين والسود في بلدان تعجّ بمقاومي العدوّ الإسرائيلي. والصحافي الإسرائيلي هذا يريد ان يزوّد القراء بخلفيّة عن اغتيال الحريري فيروي لهم حسب الرواية الموساديّة الرسميّة تاريخ الحرب الأهليّة التي بدأت على ما كتب بقتال بين الموارنة وبين الفلسطينيّين. عندما أقرأ ذلك أتساءل عن نجاح الفريق الانعزالي في زرع هذه المغالطة الكبيرة في أذهان الناس حتى في لبنان. إذا كان القتال يومها بين موارنة وبين فلسطينيّين بحسب ما يزعمون فلماذا كانت ميلشيات اليمين تخطف وتقتل مسلمين على الهويّة؟ ولماذا كانت تصريحات بيار الجميّل اليوميّة تتكلّم عن مؤامرات اليسار اللبناني؟ ولماذا انخرط لبنانيّون (وحتى لبنانيّات) من كل الطوائف في المعركة ضد ميلشيشات ربيبة العدوّ في لبنان؟ وإسرائيل طرف عابر ومارّ في الحرب الأهليّة في رواية الكاتب الإسرائيلي. هي تبدو كعابر سبيل.
وأطرف ما يرد في المقالة هو خبر إنشاء حزب الله الذي حصل على يد حافظ الأسد والملالي في إيران، بحسب ما قال وروى وخبّر. يجهل الكاتب استنسابيّاً تاريخاً طويلاً من الصراع بين حزب الله وبين النظام السوري (حتى التسعينيات) ويتجاهل مثل غيره ان النظام السوري كان يفضّل دوماً (حتى عهد بشّار الأسد) حركة «امل» على حزب الله، وكان يفصّل الانتخابات لإنقاص عدد نوّاب حزب الله. لكن الكاتب الإسرائيلي، الذي حصل على رواية كاملة ومكمّلة لاغتيال الحريري، صدف ان نشر روايته هذه في مناسبة ذكرى يوم اغتياله في بيروت من قبل فرقة التجييش والتعبئة السعوديّة في لبنان. واعتنق برغمان رواية البلاط الحريري بالكامل وزعم ان فريقاً من المعارضين السنّة والدروز والمسيحيّين تشكّل بمجرّد طرد الجيش الإسرائيلي العدوّ من لبنان عام 2000، وبقيادة رفيق الحريري نفسه. يستطيع المرء طبعاً ان يعود إلى تلك المرحلة وأن يفتّش عبثاً عن آثار لتصريحات وبيانات من فريق الحريري ضد النظام السوري. وحتى في التفصيل، يخطئ بيرغمان (يذكر ان الحريري تخرّج بشهادة جامعيّة من جامعة بيروت العربيّة مع ان الحريري لم يتخرّج وسافر إلى مملكة القهر السعوديّة). أما عن كيفيّة وصول الحريري إلى رئاسة الوزارة، فيرويها الصحافي الموسادي هكذا: «وخاض الحريري انتخابات عام 1992 لرئاسة الوزارة ونجح»، أي أن حضرته يظنّ ان لبنان نظام برلماني صرف يأتي فيه رئيس الوزراء حسب مشيئة الناخبين (أي أنه يوحي ــــ خطأً طبعاً ـــــ ان النظام السوري لم يكن يسيّر النظام السياسي اللبناني ولم يكن يختار الرؤساء وأنه كان يسمح للعمليّة الديموقراطيّة ان تسير على هواها).
أما عن عمليات مقاومة العدوّ الإسرائيلي فيصفها بيرغمان هكذا: «إن معارك حزب الله (أي أن حزب الله هو كيان خارج عن الشعب اللبناني الجنوبي ومنفصل عنه كأنه هبط عليه من وطن آخر أو كوكب آخر) مع إسرائيل في الجنوب لم تفعل ما يمكن ان يخدم معظم الشعب اللبناني». أي أن الإسرائيلي يرى ان الاحتلال الإسرائيلي هو أكبر خدمة للشعب اللبناني، لكن حزب الله عكّر على المحتلّ خدماته. ثم يروي بيرغمان قصّة تهديد بشّار للحريري بـ«تكسير لبنان فوق رأسه ورأس جنبلاط». ومن يعود إلى الحقبة الأولى التي تلت اغتيال الحريري، يذكر ان صيغة التهديد نُسبت في البداية إلى رستم غزالي لكنّها تطوّرت في ما بعد كي تُنسب إلى بشّار الأسد، الذي قاد هو بنفسه سيّارة الميستوبيشي وأشرف بنفسه — وعبر الهواتف الخليويّة — على عناصر فريق الاغتيال وكان يتسقّط أخبارهم أوّل بأول، ويسأل عن وجبات طعامهم إمعاناً في التعاون وإيغالاً في التورّط في الاغتيال. هذه هي الرواية الرسميّة هذه الأيّام. أما قصّة نزيف أنف الحريري الحنون، فيخلط بيرغمان بينها وبين لقاء آخر جمع الحريري مع قادة الأجهزة الأمنيّة في الشام في 2003، ويقول إن أنف الحريري نزف بمجرّد ان أمره بشّار بالاقتراع للتمديد للحّود. باتت قصّة دراما الحريري تصلح لقصّة مصوّرة للأولاد.
ولا ينسى بيرغمان ان يخبرنا مرّة أخرى عن عبقريّة وسام عيد الحاسوبيّة. طبعاً، إن نظريّة عبقريّة وسام عيد ضروريّة جداً لأنها وحدها تخفي ما بات واضحاً بعد تسريبات سنودن: إن «وكالة الأمن القومي» والـ«موساد» هما اللتان بنيتا نظريّة الهواتف ودوائر الهواتف، وكان الاختراق الموسادي لشركتي الهاتف الخليوي في لبنان آنذاك كاملة). من الضروري على العمل الاستخباري الأميركي ــــــ الإسرائيلي الذي يشرف على طبخة محكمة الحريري الدوليّة، ان يقنع الشعب اللبناني بأن وسام عيد هو الذي توصّل ذات ليلة، وعلى ضوء الشموع، إلى نظريّة الهواتف الخليويّة لأن الحكومة الأميركيّة التي كانت ولا تزال تختار من يقود وينفّذ المشيئة الأميركيّة، تريدنا ان نظن أن لا علاقة لها بتاتاً بمجريات المحكمة لأنه ليس من عادتها التدخّل في شؤون الدول. لا، ويضيف بيرغمان أن عيد توصّل — يا للفذاذة — إلى خلاصة ان الجناة استعملوا هواتف خليويّة لتنفيذ الجريمة. بجدّ؟ هل إستغرق التوصّل إلى هذه النتيجة الفظيعة وقتاً طويلاً؟ وعن قضيّة الضبّاط الأربعة، يكشف بيرغمان ان إطلاق سراحهم لم يتمّ إلا بضغط من الحكومة الأميركيّة نفسها (ويحدّثونك عن استقلاليّة مسيرة التحقيق والمحاكمة في قضيّة الغالي الحريري).
طبعاً أن التسريب الموسادي في المقالة يصبح في عنوان لجريدة «النهار» هكذا: ««نيويورك تايمز»: مغنيّة أمر باغتيال الحريري»، أي ان الجريدة الأميركيّة جزمت بمسؤوليّة مغنيّة. لكن هذا الأسلوب بات متبعاً: يقوم صحافي عربي (سعودي الهوى) بتسريب «خبريّة» إلى مراسل غربي في بيروت، فتقوم مطبوعته (أو مطبوعتها) بنشر الخبر، فتقوم الصحافة العربيّة بدورها بنشر الخبر على أنه: «صحيفة غربيّة تقول كذا وكذا». هذه من أساليب الابتذال الدعائي عن الحرب السوريّة وعن المواجهة بين الحلف الأميركي ـــ الإسرائيلي ــــ السعودي وخصومهم.
لكن أخطر ما يرد في المقالة هو ما لم يرد الكاتب قوله لكنه ظهر عفواً: أن كل المعلومات عن الأعضاء المتهمين في حزب الله أتت من المخابرات الإسرائيليّة نفسها، والتي — لا أشكّ — سيعتبرها كل فريق 14 آذار فريقاً محايداً ومنزّهاً عن الغرض. لا، تبلغ الوقاحة ببيرغمان للوعظ ان حزب الله لا يخدم المصلحة اللبنانيّة (لماذا لا يحدّد مصلحة الشعب اللبناني إلا أعداء الشعب اللبناني، ولا يحدد مصلحة الشعب السوري إلا أعداء الشعب السوري؟). وعليه، فإن «سكوب» إعطاء عماد مغنيّة الأمر — وعلى الهاتف ومن على السطوح — لفريق الاغتيال بتنفيذ المهمّة ورد أيضاً في معلومات المخابرات الإسرائيليّة في المقالة. ولم تذكر الصحافة اللبنانيّة ان الصحافي الإسرائيلي قابل تمام سلام في المؤتمر الأمني في ميونيخ: قد يكون الوئام بين الحكم السعودي والعدوّ الإسرائيلي أثّر على قرار سلام بمقابلة صحافي إسرائيلي. ويخترع الصحافي من عنده ان «مندوب حزب الله في مجلس النوّاب» هدّد المجلس في حال مرّ قانون تمويل المحكمة. فات على إعلام الحريري تغطية هذا الخبر الخطير الذي حصل عليه حصريّاً صحافي إسرائيلي عدوّ.
هذه محكمة لم يكتب لها ان تنجح منذ اليوم الأوّل. أوّل محكمة دوليّة في تاريخ منطقتنا التي شهدت مجازر حرب وإجتياحات وجرائم ضد الإنسانيّة وتهجير شعوب من أرضها. كل ذلك لم يستحق ان يُنشأ له محاكم دوليّة. لكن غياب رفيق الحريري بسبب حنانه وإنسانيّته استحق دوليّاً إنشاء محكمة خاصّة له. لكن إمرار المحكمة لم يكن ممكناً إلا بسبب الغباء الفظيع لحزب الله تحديداً، والذي بلع في البداية كذبة أن المحكمة الدوليّة ليست دوليّة لكنها محكمة «ذات طابع دولي». تلميذ في أول سنة قانون كان يمكن ان يشرح لحزب الله في الوقت الذي كان شارل رزق — بالنيابة عن فريق الحريري — يروّج للكذبة (كان ذلك يوم وُعد رزق برئاسة الجمهوريّة بعد ان كان إميل لحوّد عرّاب دخوله إلى الوزارة في لبنان) أنه ليس هناك من محكمة «ذات طابع». ولم يعرف حزب الله وحلفاؤه كيف يفشّلون عمل المحكمة، فكان نشاطهم ينحصر في ردود الفعل وليس في المبادرة للتعطيل الوطني. الحزب الذي عرف كيف يبطل عمل ويهزم أكبر عدوان إسرائيلي على لبنان لا ينجح في الألاعيب السياسيّة وفي تعطيل مفاعيل العدوان السياسي المترافق مع العدوان الإسرائيلي العسكري.
مهزلة في تاريخ القانون الدولي لم يسبق لها مثيل. «المحكمة الجنائيّة الدوليّة» مثلاً بدأت تعبيراً عن رغبة عالميّة في إحقاق الحق العالمي الإنساني وتحوّلت بسرعة إلى محكمة يقاضي فيها الرجل الأبيض المُستعمر السود في أفريقيا ممّن لا ينساقون وراء المشاريع الغربيّة. وفريق الدفاع في المحكمة الحريريّة في لاهاي قد يصلح في مسرحيّة كوميديّة عن المحاكمات لكنه افشل فريق دفاعي برز على الساحة الدوليّة. يمرّ أمامه شهود متنوّعون، من مروان حمادة إلى غطّاس خوري إلى وليد جنبلاط وغيرهم ولا يجرؤ على طرح السؤال البديهي عن العلاقة الماليّة التي كانت تربطهم برفيق الحريري. هذا السؤال هو البديهي في أي محكمة ولو في الأرياف لكن أحداً لا يطرحه. هذه المحكمة سمحت لسليم دياب بأن يشرح ان مساعدات الحريري الماليّة هي غير الرشاوى لأنها... «مساعدات ماليّة». ماذا سيحصل لو ان شرطيّاً أوقفني في شارع في أميركا ولو أنني نقدته مبلغاً من المال شارحاً ان المبلغ ليس رشوة بل «مساعدة ماليّة». لا، عبد اللطيف الشمّاع هذا الأسبوع أضاف تعريفاً جديداً للمحكمة عن الرشاوى، التي رفض ان تُسمّى رشاوى، (أكثر من عشرة مليون) والتي أنفقها الحريري على رستم غزالي. قال: «ما كان يدفعه يهدف إلى تسهيل الأهداف التي كان يؤمن بها لجعل لبنان بلداً حرّاً، سيّداً، مستقلاً، يسود فيه القانون، مثله مثل أي بلد متقدّم». أي قاض كان يمكن ان يقبل هذا الشرح الذي مرّ امام المحكمة، وباقتناع قضاتها وهيئة الدفاع نفسها؟ لو ان هيئة الدفاع هذه كانت تدافع عن بريء في العالم، فإنه سيُحكم بالإعدام بسبب تقصيرها وضعفها ومغالطاتها. لكن كانت هذه هي المهمّة. هيئة دفاع فاشلة كي ينجح المخطّط الصهيوني ـــ الأميركي ضد المقاومة في لبنان، وضد حلفائها (حتى «الأحباش» طالهم الاتهام).
هذه المحكمة سمحت لمروان حمادة بان يمرّر تحليلات سياسيّة على أنها وقائع عنيدة لا خلاف حول صحتها. مروان حمادة هذا يجلس تحت قوس المحكمة ويستمع بإيجاز إلى مقالة دبّجها في مديح حافظ الأسد الذي يتهم نظامه بالإجرام والوحشيّة. لا، أكثر من ذلك: سمحت له المحكمة بأن يبرّر تناقضات أقواله في حقيقة تاريخ موقفه من النظام السوري بالقول إنه «قومي عربي»، في زمن باتت القوميّة العربيّة تُعرّف على أنها مجرّد ارتهان لآل سعود — الأعداء التاريخيّين للقوميّة العربيّة منذ نشأتها وصعودها. لم يسأل أحد في هيئة الدفاع مروان حمادة عن تعريفه الخاص بالقوميّة العربيّة الذي يزعج أوثق حلفاء العدوّ الإسرائيلي في سنوات الحرب الأهليّة الطويلة في لبنان. وغطّاس خوري يحاول ان يبرز ككمثّل عن فريق سياسي معارض وبجسارة ضد النظام السوري في لبنان ويقول عن لقائه مع رستم غزالة بعد تعيينه بأنه مجرّد لقاء «مجاملة» لا تهنئة، لا بل يضيف مثل غيره ان الكل كان يتعامل مع المخابرات السوريّة في لبنان.
لا يزال لبنان يعاني جراء دخول رفيق الحريري الحياة السياسيّة اللبنانيّة وبأمر عمليّات مُشترك بين النظاميْن السوري والسعودي. واختلاف النظاميْن المذكوريْن شكّل أذى على لبنان كما شكّل توافقهما. وكان الحريري في حياته، كما تحوّل في مماته، إلى عنصر تفرقة وتفجير لم يعرفه لبنان من قبله. والرجل الذي أراد ان يُكمل ما بدأه بشير الجميّل، انتهى على طريقة انتهاء بشير الجميّل. لكن الرعاة الخارجيّين لبشير الجميّل ورفيق الحريري لن يسمحا للبنان أن يهنأ. يريدون له ان يصبح مرّة أخرى تابعاً (بالكامل وليس نصفه فقط) لمشيئة الاحتلال الإسرائيلي. هذا الإصرار الصهيوني سيضمن بقاء سلاح المقاومة إلى أبد الآبدين، أو حتى زوال الكيان الغاصب. أما فريق 14 آذار، فيمكن له ان يلجأ إلى ملجأ الـ«بيال»، حيث سيلاقيه أسطول أميركي برمائي.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:angryarab.blogspot.com)