أخيراً، صدر ألبوم «لسان الطرب» لعازف البيانو والمؤلف طارق يمني (1980). تجربة جديدة وجريئة بين تجارب الجاز المعاصر تضمّنت مختارات من ريبرتوار الموسيقى الكلاسيكية العربية من الفولكلور والموشحّات المعروفة، حيث وضع المؤلف خلاصة رحلة دامت 12 سنة مع الجاز، وما زالت مستمرة. «لسان الطرب» هو تجربته الثانية بعد «آشور» (2012). في ألبومه الأول، أفرغ النظريات والتقنيات التي تعلّمها، وبدأ بتجربة الارتجال على الإيقاعات الشرقية كما في «مقطوعة سماعي يمني» على إيقاع السماعي. أما في «لسان الطرب» الذي أنتجه بدعم من «المورد الثقافي»، فيقدم يمني تسع مقطوعات كلاسيكية عربية معروفة في قالب من الجاز.
ليست هناك أية محاولة لمزج الشرقي مع الجاز، ولا تندرج التجربة تحت ما سمي خطأً «جازاً شرقياً» أو مثلما يقول يمني «التسمية التي استعملت في المكان الخطأ». الآلات هنا غربية، مع بيانو (طارق يمني)، ودرامز (جون ديفيس) وباص (بتروس كلامبانيس). لا حضور للآلات شرقية، لكن كل العناوين شرقية عربية، منها موشّح «حبي زرني» (7:18) و«لما بدى يتثنّى» (5:05)، وطقطوقة لحن «الشيّالين» (5:22)، وفولكلور «آه يا زين» (3:22)، وفولكلور عراقي «شمالي والي» (9:28) إلى جانب «بيروت زهرة في غير أوانها» (3:28) لعمر الزعني، ومقطوعة على إيقاع الدبكة «نيو دبكة» (6:08).
لا يدّعي العازف اللبناني اكتشافاً عند تصنيفه الألبوم بالأفرو طرب: «أفرو» لأنه يردّ الجاز إلى أصله، أي إلى الموسيقى التي أحضرها الأفارقة إلى أميركا. تطوّرت هذه الموسيقى لاحقاً بعد تفاعلها مع ثقافات أوروبية أخرى، ومنها خرج البلوز والجاز ثم الهيب هوب والروك والبوب.

يقدّم «بيروت زهرة
في غير أوانها» لعمر الزعني في قالب جديد


خلال لقائنا به، يصف يمني الجاز بأنه «تطوّر مذهل وسريع للموسيقى البسيطة الطبيعية، وقد التقت معه كل أنواع الموسيقى في العالم، من دون أن يمنعه هذا من الاستمرار لأنه موسيقى ناتجة من تجارب لا تتوقف».
يحاول يمني أن يجد تفسيراً لسحر هذه الموسيقى، «عازفو الجاز يمتلكون تقنيات عالية، وهم متطوّرون موسيقياً، ما يؤهلهم لاستيعاب التفاصيل الصغيرة وحلقات التواصل في أية تركيبة موسيقية».
عبر «لسان الطرب»، سعى يمني إلى استعادة مقطوعات من الريبرتوار الكلاسيكي العربي. يقول: «في الموسيقى الشرقية هناك مدرستان، محافظة ومجدّدة، لولا الأولى لما تمكّنا من التعرّف إلى تراثنا الموسيقي. لكني أنتمي الى الثانية». في عمله الجديد، يتولّى بيانو يمني مهمة الميلودي. يرشدنا بدايةً إلى النغم الذي تحوّل إيقاعه بشكل جذري. إيقاع جازعلى وزن عربي معروف، قبل أن يدخل مع رفيقيه الى مرحلة الارتجال الجماعي الذي يعتبره يمني نقطة القوة في الجاز، مفضّلاً إيّاه على التقاسيم التي تعتمدها الآلات بشكل منفرد في الموسيقى الشرقية.
مهمة العازفين المرافقين ليست سهلة مع التوزيع الذي أفاد منه يمني في الخيارات الإيقاعية التي لا تحصى في الجاز، ومن المساحة الارتجالية التي تمنحها الموسيقى الشرقية في التقاسيم. «في إيقاع الأربعة، يمكنك أن تضيف العشرات من الإيقاعات بين ضربة وأخرى، فكيف الحال إذاً مع إيقاع الثمانية كالسماعي الذي يستعمل غالباً في الموشّح؟ الجاز يمنحك ألف طريقة لعزف الإيقاع العربي»ز يتحدث طارق هنا عن هذه العملية بسرور طفل يحلّ المسائل الحسابية، هو يعتبر الأمر مشابهاً في الموسيقى، يرى أنه إلى جانب التلقّن وتطبيق النظريات، هناك موهبة فكّ الرموز، وهو يعتبر نفسه محظوظاً بامتلاكها، ما ساعده في رحلته الموسيقية.
صاحب مبادرة مهرجان «بيروت تتكلم الجاز» الذي احتفل للسنة الثانية بـ «اليوم العالمي للجاز» (30 نيسان/أبريل) في لبنان، يشير إلى أنّه مستمر في خوض التجارب، لأن الجاز موسيقى حرّة. ويأسف في الوقت نفسه لأن الموسيقى العربية الغنية أصلاً لم تتطوّر أو تتغيّر إلى الأفضل. لذا ينطلق في تعاطيه معها من خلال تجربته مع موسيقى الجاز الأكثر حرّية. من هنا، يقدم «لسان الطرب» كاقتراح في سبيل تجديدها أو عزفها بشكل مختلف. الألبوم الذي طرح أخيراً في الأسواق، يندرج ضمن التجارب المحلّية الجديدة في الجاز المعاصر التي تعكس التطوّر الحاصل في كواليس الإنتاج المستقل في لبنان. في معظم الأحيان، تلقى هذه التجارب آذاناً صاغية وتقديراً في الخارج أكثر من الداخل، خصوصاً عبر مساهمتها في نشر إرث المنطقة الثقافي بأسلوب محترف.



سيرة

يعدّ طارق يمني من الجيل الذي شارك في انطلاقة موسيقى الـ «أندرغراوند» اللبنانية، إذ بدأ مع إحدى أوائل فرق الهيب هوب اللبنانية «عكس السير». عام 2001، قرر التوجّه نحو الجاز، فلجأ إلى الكتب والتسجيلات، قبل أن يطبّق ما يتعلّمه مع فرقة «شحادين يا بلدنا» التي عزف معها وتعرّف فيها إلى فهد رياشي (عود) وخالد ياسين (ايقاع). بدأ معهما ومع آخرين تجارب في الجاز والفيوجن وأسسوا فرقة «فنجان شاي» التي استمرّت حتى 2003. حصل يمني عام 2005 على دعم من كونسرفاتوار في هولندا، فغادر ليكثّف خبرته في الجاز. بعد أربع سنوات، عاد إلى لبنان. وفي 2010 حازت مقطوعته «سماعي يمني» جائزة Thelonious Monk للتأليف الموسيقي في واشنطن. فتحت له الجائزة آفاقاً جديدة، حيث غادر إلى نيويورك المدينة التي لا بدّ من أن يزورها أو يمرّ بها مريدو الجاز، على حد تعبيره.