القاهرة - لا أحد يملك تفسيراً لحالة الحزن التي انتابت العديد من المبدعين والنشطاء المصريين أول من أمس وهم يودعون الشيخ أحمد التوني. مثّل رحيل المنشد الديني صدمة لعشاقه ومريديه، وهم العشاق الذين أضافتهم الثورة المصرية إلى الجمهور التقليدي الذي كان يتواصل مع الشيخ، وكان في أغلبه من أبناء صعيد مصر الذين يقدّرون مكانته.
من قريته الحواتكة في أسيوط (600 كلم جنوب القاهرة) في صعيد مصر، كان الشيخ التسعيني أحد أشهر وأكبر منشدي صعيد مصر. أُطلق عليه لقب «ساقي الأرواح» و«سلطان المنشدين». قد لا يعرف كثيرون أنّه خال المنشد الديني الأشهر ياسين التهامي الذي يعدّ زعيماً لدولة المديح النبوي في مصر.
لكن ما يميز التوني خلافاً لمعاصريه من منشدي الصعيد الكبار أمثال الشيخ أحمد البرين، وعبد النبي الرنان، أنه كان أكثرهم ميلاً إلى المغامرة والتجديد والقبول بالانخراط في تجارب الحوار مع الموسيقات الروحية في العالم. يعرف مقتنو أعماله قيمة الفيديو الشهير الذي يقدّمه في الأغنيات الصوفية على إيقاعات الفلامنكو مع فرقة غربية، وإلى جواره فتاة تؤدي رقصات صوفية تجمع بين المولوية ورقص الحضرة المعروف في الموالد المصرية. ولعلّ الشيخ التوني هو الوحيد إلى جانب الشيخ محمد الهلباوي الذي انخرط في مغامرة من هذا النوع، وكان يجاهر بحماسه لهذا النوع من التجارب لإغناء تجربته نافياً عنه تهمة التقليد أو الابتعاد بالطقس الصوفي عن محتواه وتجلياته.
قبل عشر سنوات، غامرت «مؤسسة المورد الثقافي» بتقديم أحمد التوني وأحمد البرين، وعبد النبي الرنان في أمسية على «مسرح الجنينة» ضمن فقرات البرنامج الرمضاني «حي». ليلتها، جذب التوني بأدائه الجمهور القاهري الذي كان تعاطيه مع الغناء الصوفي يقتصر على معرفة محدودة بأعمال الشيخ ياسين التهامي، الذي ذاعت تجربته لأنّه قطع القرى والنجوع المصرية إلى العاصمة. لكن التوني تمكن عقب الثورة المصرية من الاقتراب من شبابها بفضل موافقته على تقديم حفلات داعمة للثورة بدعوة من «دار ميريت» ومؤسسها الناشر محمد هاشم.
في الحكايات التي كان يرويها التوني عن أسباب انخراطه في الغناء الصوفي والإنشاد، ثمة ايمان واضح بفكرة العلامات التي ترسم المصير. كان دائماً يشير إلى ساعة بكائه عند «مقام السيدة زينب» في القاهرة لأنه كان يرغب في المديح عند أبوابها وهو في سن لم يكن مؤهلاً فيها لهذه المهمة، لولا أن جاء إليه منشد آخر من أسيوط هو رمضان حسن عيسى ووضع على كتفيه عباءة وبشرّه بالقبول قائلاً «لقد قبلت السيدة زينب رئيسة الديوان دعوتك». وهنا أنشد لها «كريمة ياللي مقامك حلو منور».
كذلك، تحدث طويلاً عمّا يسميه في الصوفية بـ«الأسباب» التي تؤدي إلى التواصل وعن الفناء وحالة الذوبان التي تجعل طقس الغناء تواصلاً مع المحبوب، وانفصالاً تاماً عن الواقع، ليس بمعنى التغييب أو المغالاة، لكن القصد أن يتحول أعضاء الجسد إلى أدوات للتسبيح بعظمة الخالق، وهو تصور شائع يجمع بين معتقدات المتصوفة وما يسمى في مصر بالدين الشعبي المعتمد على الطقس المعيشي وإذابته في صلب الحياة اليومية.
اللافت أنّه في بداياته، لم يكن التوني متحمساً للأداء بصحبة فرقة موسيقية. لكنه قَبِل بذلك بعد سنوات عدة، مكتفياً بتخت صغير يضم أفراداً من عائلته بينهم ابنه وحفيده يعزفون على آلات بسيطة هي الناي وآلة إيقاع وكمان. كانت للشيخ التوني تعريفات خاصة للموسيقى، للنجاة بها من فخاخ التحريم التي حاول المتشدّدون نصبها في طريقه. كان يؤكد: «الموسيقى تجلب الجمهور، وتقرب ‏المعنى، وتطرب النفس، وترقرق المشاعر». وشأن الصوفية الكبار، بشّر التوني في ما كان يقدمه لقيم التسامح العليا والتقارب بين الأديان، نافياً عنها فكرة الصراع. الموسيقى في سهرات الإنشاد الصوفي تؤدي إلى «نوع من الصفاء والحب، والإبداع والتشويق».من خلال الإنشاد والموسيقى، كان الشيخ ‏يهدف إلى إيصال رسالة التصوّف الإسلامي إلى العالم كله. ويعتقد أنّ التصوف صالح لجميع الأديان وليس حكراً على المسلمين.
على الصعيد التقني، لا خلافات كبيرة بين أداء التوني وياسين التهامي الذي كان يعتبر نفسه تلميذاً من تلاميذ خاله. كان الشيخ يركز في إنشاده على الكلام، لا على الألحان التي كانت مجرّد خلفية مرافقة. هو ينشد بشكل فطري قائم بصورة أساسية على الارتجال مما يحفظه من أشعار كبار أئمة التصوف ومنهم أبو العزايم، وابن الفارض والحلاج. كان يتولى بنفسه ضبط الإيقاع من خلال النقر بمسبحةٍ على كأس زجاجي وهو ينشد «رنت زجاجي».