حصل اللقاء الأول بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس هيئة التنسيق الوطنية في الخارج هيثم منّاع، في فندق «موريس» في باريس، في نيسان 2011. استمع «أبو مازن»، بإمعان، الى شرح منّاع. كان القيادي المعارض يؤكد لاءاته الشهيرة: لا لتسليح الثورة، لا للتدخل الخارجي، لا لأسلمة الثورة. اعتبر أن التسليح ينتهي بانتصار صاحب السلاح الأهم، أي السلطة. ورأى أن الأسلمة تدفع الى التمذهب والتطيّف. أما التدخّل الخارجي فيعني الخيانة. كان محقّاً في كل ذلك.
نوّه عباس برؤية منّاع. أشاد بكتبه ومحاضراته. قال إنه مؤيد فقط للمقاومة المدنية السلمية إذا كان الهدف إصلاح النظام.
انطلقت العلاقة على نحو دائم وممتاز بين الجانبين. صار «أبو مازن»، كلما سافر الى باريس، يكلّف رئيس استخباراته بالاتصال برئيس هيئة التنسيق المقيم هو الآخر في فرنسا ويلتقيان.
جرى اللقاء الثاني في الفندق نفسه قبيل المبادرة العربية. اقترح عباس ذهاب وفد من هيئة التنسيق للقاء وزير الخارجية المصري نبيل العربي. قال منّاع: «ليس عندي مشكلة معه، فهو رجل أحترم مواقفه». كلّف عباس كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات الاتصال بالعربي. فوجئ الوزير المصري بالطلب، وسارع الى القول: «أنا مش عايز أشوف هيثم المالح». ضحك عريقات، وقال: «لا. لا. أنا أحدثك عن هيثم منّاع»، فأجاب العربي: «آه، ده رجل محترم». تحادث منّاع والعربي مباشرة عبر الهاتف وحُدّد موعد اللقاء.
يعرف محمود عباس عائلة منّاع جيداً (اسمها الحقيقي هو العودات، وقد حمل هذا الاسم من زوجته الراحلة لظروف خاصة، علماً بأن منّاع قريب لنائب الرئيس السوري فاروق الشرع وللكاتب المعارض حسين العودات). كان «أبو مازن»، في شبابه، يزور درعا، ويوزع روزنامات حركة فتح بعيد تأسيسها للحصول على دعم مادي. آنذاك، تعرف على والد هيثم في المنطقة التي انطلقت منها شرارة الأزمة السورية، وعبرها قد تمر شرارات أزمات أخرى إذا استمر الخيار العسكري قائماً.
ذهب منّاع مع عدد من رفاقه الى القاهرة. كان اللقاء مع العربي ودياً وأكثر ميلاً الى الحل السياسي. جرى البحث في عدد من الاحتمالات. تعزّز الحوار في جلسات لاحقة، حضر بعضها أيضاً الكاتب سمير عيطة. في تلك اللقاءات مع «أبو مازن» والعربي، وُضعت البذور الأولى للمبادرة العربية التي تغيّرت مضامينها لاحقاً مع الدخول الخليجية، وتحديداً دخول القطري والسعودي على الخط. في تلك اللقاءات أيضاً، وضعت بعض بذور الحل في جنيف وآفاق التسوية السياسية مع السلطة.

«أبو مازن»: لا أثق بأميركا

نصائح «أبو مازن» لوفد هيئة التنسيق كانت لافتة. في أحد اللقاءات قال لهم: «كل الناس تعتبرني رجل أميركا. ربما نحن أخطأنا بحصرية الاعتماد على الأميركيين في مرحلة معينة، فلا تكرروا خطأنا. لا تعفّسوا كما عفّسنا». قالها باللهجة الدارجة، مضيفاً: «أنا أكثر ثقة بالروس. لو وعدكم الروس بإعطائكم سبع تفاحات فهم سيعطونها، أما إذا وعدكم الأميركيون بـ 100 تفاحة فستجدون الصندوق فارغاً. الأميركيون يعدون ولا يعطون شيئاً». نصح بالذهاب الى موسكو. النصيحة نفسها وجّهها منّاع، لاحقاً، الى مؤتمر المعارضة في القاهرة. قال لهم: «اذهبوا الى موسكو، لا إلى نيويورك، إن كنتم تريدون حلاً».
عرض الرئيس الفلسطيني على هيئة التنسيق مساعدة مالية. ردّ هيثم منّاع: «نحن نشكرك جزيل الشكر. حاجتنا الأولى الآن هي للمساعدة السياسية». حينها، أهداه «أبو مازن» مسبحتين عليهما علم فلسطين، واحدة له والأخرى لحسين العودات.
سعى «أبو مازن» الى إبقاء اتصالاته تلك بعيدة عن أعين الأميركيين والفرنسيين. لكن، كيف يمكن الابتعاد وأجهزة الاستخبارات الغربية تتابع وتراقب وتوظّف وتحرك؟. لم يكن صعباً على الاستخبارات الفرنسية رصد تلك اللقاءات. ساهم في ذلك أن وفد هيئة التنسيق كان موجوداً في الفندق نفسه الذي نزل فيه وفد من المعارضة الليبية.
انتشر خبر اللقاءات. وصل الى قطر. حين التقى خالد العطية (وزير الخارجية الحالي) بالقيادي في هيئة التنسيق عبد العزيز الخيِّر، بادره بالقول: «نحن نعرف أن هيثم منّاع التقى السفير الروسي في جنيف قبل توجهه الى القاهرة، لكننا نعرف كيف نشتري موقف الروس». أجابه الخيِّر: «القضية أهم بكثير من أي مبلغ في العالم بالنسبة إلى الروس. سوريا محور استراتيجي أساسي لهم في المنطقة لن يتنازلوا عنه مهما كانت المبالغ كبيرة». بقي المال هاجس الراغبين بقلب النظام السوري بالقوة. في إحدى المرات، قال مسؤول قطري: «والله لم نترك مسؤولاً لم نشتره. يا أخي والله اشترينا الكثير من أعضاء الكونغرس ولم نفلح».

تميم: مع الحل السلمي

في تلك الفترة، التقى منّاع ووفد كبير من هيئة التنسيق ولي عهد قطر الأمير (الحالي) تميم. وفق رواية أحد أعضاء الوفد، فإن «الأمير تميم كان إيجابياً الى أقصى حد. قال إنه، شخصياً، يدعم خط هيئة التنسيق وسيدافع عنه. وأكد ضرورة حقن الدماء وتجنب السلاح والبحث عن حل سلمي للحراك».
كانت لغة الأمير تميم مغايرة تماماً لتلك التي يستخدمها رئيس الوزراء آنذاك. كان حمد بن جبر آل ثاني يريد، مع وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل، استخدام كل الوسائل، بما فيها العسكرية لإسقاط النظام السوري بالقوة.
قال الأمير تميم لمنّاع: «أنا التقيت بك مرة واحدة، والوالدة (الشيخة موزة) مرة أخرى. لماذا لا تقابل المسؤولين الآخرين؟». ابتسم منّاع ابتسامته المعهودة، التي غالباً ما تختصر موقفاً سياسياً كبيراً، وأجاب: «أنا أبتعد عادة عن الحكام». ضحك الجميع. لم يستمر الضحك طويلاً. عملت قطر بعدها، ولمدة طويلة، مع السعودية ودول غربية على إبعاد هيئة التنسيق عن أي اجتماع أو مؤتمر، ثم اشترطت عليها ــــ لأي مشاركة ــــ أن تكون جزءاً من الائتلاف السوري المعارض. شرط لا تزال الهيئة ترفضه حتى اليوم، معتبرة أن الائتلاف صنيعة الخارج ولا يمثل المعارضة.

«أبو مازن» يموّل المعارضة؟

بقي «أبو مازن» على خط هيئة التنسيق مؤمناً بأنها، مع معارضة الداخل وبعض الأطراف المعارضة في الخارج، تستطيع أن تحاور السلطة وتصل الى حل. يقال إن ضغوطاً أميركية وأوروبية وخليجية مورست عليه للتخفيف من تلك العلاقة. يقال، أيضاً، إن نصائح أسديت له بالتواصل مع المجلس الوطني ثم الائتلاف. بعض الروايات المعارضة تؤكد أن «أبو مازن» دفع أموالاً لبعض من هم في المجلس. ثمة من يشير الى أسماء ميشال كيلو وعمار القربي ورضوان زيادة. لا أحد يستطيع الجزم بهذا الأمر، لكنها واحدة من الروايات التي تدور في كواليس التواصل.

غسان سلامة على الخط

في تلك الكواليس، كان الرئيس الفلسطيني يوسّع دائرة التشاور. سعى الى الوقوف على آراء مجموعة من الخبراء. اجتمع بكل من مروان المعشر رئيس الوزراء الأردني السابق، والدكتورة ريما خلف، والدكتور غسان سلامة والدبلوماسي الأخضر الإبراهيمي. استمع الى شروحات مفصلة عن كيفية الخروج بتسوية سلمية للأزمة السورية. في تلك الجلسات، وُضع عدد من التصورات القادرة على الجمع بين موقف الدولة السورية والمعارضة. كان الاتجاه العام هو لتحسين شكل النظام وتطويره، لا لتغييره. ثمة روايات تؤكد أن جزءاً من حركة الإبراهيمي في جنيف استند الى نصائح سلامة بعد اللقاءات مع «أبو مازن» والمعارضة. ثمة من يذهب، أبعد من ذلك، الى الحديث عن دور سلامة في المساهمة في صياغة بنود «جنيف 1». لا أحد يستطيع الجزم.
عمل «أبو مازن»، أيضاً، على عقد لقاءات في عمان لبعض أطراف المعارضة. اعتذر منّاع عن عدم الذهاب. كانت ذريعته أنه إذا ذهب الى الأردن فلا بد له من زيارة مخيم الزعتري، لكن أسباباً أمنية تمنعه من ذلك.
في اللقاءات بين عباس ومناع وقيادات هيئة التنسيق، طُرحت أفكار كثيرة لبناء الثقة. بينها، مثلاً: «الإفراج عن معتقلي هيئة التنسيق، الإفراج عن النساء والمعاقين، فك الحصار وإجراءات من الطرفين لبناء الثقة بين المعارضة والسلطة».

اغتيال في براغ

تكثفت الضغوط على «أبو مازن». تعدّدت الطلبات للانفتاح على المعارضة في تركيا. وجد الطرف الفلسطيني نفسه في شبكة معقّدة من تضارب المصالح. اختار الرئيس الفلسطيني أن يبقي الخيوط مع الجميع. طرح في بعض الاجتماعات وجود مسؤولين عسكريين. وصلت الاتصالات الى بعض ضباط «الجيش الحر». فجأة، اغتيل السفير الفلسطيني في براغ جمال الجمل. قيل إنه قتل في حادث عرضي بعد انفجار عبوة في خزانة قديمة في منزله. العائلة شكّكت، وقالت إن الخزانة تستخدم منذ فترة طويلة. ثمة من يعتقد أن سبب الاغتيال موجود في خزائن مُحكمة الإقفال على أسرار لن تُكشف قبل فترة طويلة، وربما ليس قبل أن ينجلي غبار المعارك في سوريا. هذا إذا كُشفت.
سعى عباس الى توسيع شبكة الاتصالات منذ عام 2012. فتح خطوطاً مع القربي وكيلو و«مجموعة أميركا». تبيّن، لاحقاً، أن الكثير من نقاط اتفاق الدوحة كانت قد نوقشت بين «أبو مازن» وهيئة التنسيق وبعض أطراف المعارضة الأخرى، وخصوصاً معارضة الداخل.
أبقى اتصالاته مع موسكو أيضاً. يذكر أحد أعضاء هيئة التنسيق أن مناع ورجاء الناصر كانا في العاصمة الروسية في آذار الماضي، فاتصل «أبو مازن» ناصحاً بأن يبقى وفد هيئة التنسيق فيها بضعة أيام. أجابه مناع: «لا أستطيع. لديّ موعد في إيران مع علي أكبر صالحي»، فأصرّ عباس قائلاً: «نحن نحمل مبادرة للتسوية لكم». كانت تلك المبادرة التي حملها إليه الوزير اللبناني السابق كريم بقرادوني الى عمان (راجع الحلقة الأولى من هذه الوثائق).

مصر والجيش السوري

كانت مصر أيضاً على خط الاتصالات. دخل وزير الخارجية الجديد نبيل فهمي في أجوائها. منذ تولّيه مهماته، بدأ فهمي يعبّر عن مناخ جديد في مصر لصالح التسوية السلمية في سوريا والحفاظ على الجيش السوري. يصفه مناع بأنه «أذكى وزير خارجية منذ سنوات. دقيق، حازم يعرف كيف يختصر وقته ووقت زائره بتحديد نقاط واضحة للنقاش أو التسويات».
في تلك الفترة، نُسجت علاقات بعيدة عن الأضواء بين الأجهزة المصرية والسورية. طلبت دمشق رفع العلاقة الى المستوى الدبلوماسي. طلبت القاهرة بعض المبادرات الإيجابية. تأخر الجانب السوري بالردّ، لكن العلاقات مع وزير الخارجية وليد المعلم قائمة وبأفضل بكثير مما كانت عليه سابقاً.
كان رأي عباس أن الحلّ السياسي في سوريا يتطلب تعاوناً بين أطراف المعارضة وروسيا ومصر. ركّز الرئيس الفلسطيني كثيراً على دور القاهرة بقيادة المشير عبد الفتاح السيسي. كان دائماً يقول إن الجيش المصري حريص على الجيش السوري لأن في ذاكرة الجيشين تاريخاً من التعاون والأمن القومي المشترك. عمل «أبو مازن» ومناع وهيئة التنسيق كثيراً على إقناع الروس بعدم قطع العلاقة مع مصر، حتى في عهد مرسي. استمروا في العمل لتقريب القاهرة من موسكو. وقال منّاع في أحد لقاءاته مع مسؤول روسي كبير: «لا تغفلوا حضور مصر في جنيف، فدورها بات مهماً جداً، وهي قادرة على المساعدة كثيراً في التأثير الإقليمي وفي إيجاد حلول».

مناع منبوذ أميركياً وخليجياً

لماذا لم تفلح كل اتصالات الرئيس الفلسطيني مع هيئة التنسيق بإشراكها في مؤتمر جنيف؟ بعض الجواب يفهمه قارئ الوثائق من وثيقة تتعلق بلقاء جرى بين منّاع ومسؤول أميركي في جنيف في آذار 2013. بادر المسؤول الأميركي، الذي ربطته علاقة وطيدة ومصلحية بالرئيس السابق رفيق الحريري، مناع بالقول: «كل شيء يناقضنا. أنت في نيكاراغوا كنت مع خوسيه أورتيغا، وفي فنزويلا كنت مع هوغو تشافيز، وفي العراق كنت ضدنا...». سمع منّاع كلاماً مماثلاً من مسؤول خليجي كبير من أولئك الذين اعتقدوا طويلاً بأن إسقاط الأسد بالقوة بات قاب قوسين أو أدنى.

عباس بين سوريا و«حماس»

لماذا لعب «أبو مازن» كل هذه الأدوار؟ معارض سوري قريب منه يقول: «كان في ذهنه أن إنقاذ سوريا مهم للقضية الفلسطينية، لأنها لو سقطت لضاعت فلسطين. وفي ذهنه، أيضاً، أن الحل السلمي هو نقيض الحلول التي ذهبت برياحها حركة حماس. وفي ذهنه، أخيراً، أن العلاقة القوية مع سوريا وانفتاح الغرب على إيران الحليفة لسوريا يمكن أن يشكلا له سنداً لمواجهة الهجمة الأميركية الإسرائيلية عليه حالياً لفرض حل على أساس يهودية الدولة».
محاولات ربما لم تظهر كثيراً في الإعلام، لكنها لا شك أعطت بعض الثمار، وخصوصاً إذا ما علمنا أن علاقة «أبو مازن» تحسّنت كثيراً مع السلطة السورية في الأعوام الثلاثة الماضية. يُحسب له، في كل الأحوال، أنه حاول إنقاذ سوريا التي احتضنت الفلسطينيين ودعمت قضاياهم طويلاً، بينما كثير من العرب ساهموا في تدميرها.




نقد غير مسبوق

لم يتعرض مقال لحجم من النقد كالذي نشرناه في الحلقة الأولى («الأخبار»، العدد ٢٢٣٠، الاثنين ٢٤ شباط ٢٠١٤) عن دور الرئيس الفلسطيني محمود عباس في السعي إلى حل الأزمة السورية. نؤكد في هذه الحلقة الثانية والأخيرة أن كل ما نشرناه مستند الى وثائق وصور وروايات ممن ساهموا في تلك اللقاءات. ربما يضير البعض أن يلعب «أبو مازن» مثل هذا الدور. فحبذا للناقدين أن ينشروا ما يناقض أو يصحح هذه الروايات، إذا كانت لديهم رواية أخرى. أما إذا كان المستهدف منها «أبو مازن»، فهذا أمر آخر.