المنافسة بين الشاشات اللبنانيّة على أشدّها. ومحطة «الجديد» كسبت جولة مهمّة في نشرتها للأخبار التي _ على علّاتها _ تبقى أفضل نشرة في لبنان، وخصوصاً أنها لم تحد عن دعم مقاومة العدوّ، بالرغم من تقلّبات الزمن اللبناني. لكن المحطات التلفزيونيّة تعتمد اليوم على شركات الاستطلاع التي تحدّد نسبة المُشاهدة، والتي على أساسها يتمّ تحديد سعر الإعلان في المحطات. في أميركا، هناك شركة متخصّصة («نيلسون») بنت سمعة من النزاهة في الاستطلاع لأنّها ربطت منازل في طول أميركا وعرضها عبر شبكة إلكترونيّة تسجّل كل تقليب للمحطات (في الزمن ما قبل الإلكتروني، كانت «منازل نيلسون» _ أي تلك المنازل التي اختيرت كعيّنة مُمثّلة للشعب الأميركي _ غير مجهّزة بتقنيّات حديثة، وكان على كل مشاهد ومشاهدة تدوين أي تغيير في المحطة مع تسجيل وقت المشاهدة). لكن ليس هناك من شركة «نيلسون» في لبنان. هناك شركة احتكاريّة لا تعتمد على تقنيّات شركة «نيلسون» وهي تحدّد نسب المشاهدة بناءً على سؤال الناس في الشارع أو على الشرفات أو على الهاتف. والمحطّات تتذمّر من النظام المعمول به، لكن لا قدرة لها على تغييره. كما أنّ جريدة «النهار» دخلت في شراكة (غير قانونيّة بالمعيار الأميركي) مع رجل أعمال قوّاتي لاحتكار الإعلانات في الصحف اللبنانيّة (وفي التوزيع أيضاً). وغياب المراقبة أو الدقّة في رصد نسب المشاهدة يدفع المحطّات (وهذا سارٍ في أميركا أيضاً) إلى التنافس الحادّ لجذب الجمهور بأي طريقة. والتنافس على أنواعه جزء من النظام الرأسمالي الذي يروّج لفضائل المنافسة (ما كان بيار الجميّل الجدّ يسمّيه «المبادرة الفرديّة» في مديحه للنظام الرأسمالي الوحشي المعمول به في لبنان، والذي زاد وحشيّة على يد رفيق الحريري).
المحطات اللبنانيّة في سباق لا ينتهي للصعود والبروز. لكن المنافسة بين محطات على كسب أكبر عدد من المشاهدين تؤدّي لا محالة إلى تدنّي مستوى البرامج. إنّ أفضل الشبكات الإخباريّة أو المعرفيّة (مثل «سي _ سبان في أميركا أو بي. بي. إس.) التي لا تسعى إلى الربح لا تعتمد على شبكات رصد نسب المشاهدة كي لا تتأثّر بها. لكن هذا بعيد عن لبنان لأن ملكيّة المحطات تتوزّع بين سلالات النفط والغاز وبين أصحاب الثروات في لبنان. ليس هناك محطة واحدة مملوكة من المشاهدين، كما أن رفيق الحريري سعى جاهداً لإقفال تلفزيون لبنان لأنّه أراد تدعيم محطته الخاصّة.
برنامج «الزعيم» فكرة غريبة، لكن تطبيقها كان أغرب. يبدو البرنامج في حلقته الأولى كمحاولة مستميتة لجمع (عشوائي) بين برامج مختلفة: من كل وادٍ عصا. هل هي مزيج لبرامج «رقص النجوم» و«الأخ الكبير» و«المتدرّب» و«استديو الفن» و«ستار أكاديمي»؟ لم يكن الجواب واضحاً في الحلقة الأولى. ما العلاقة بين عاصي الحلّاني والتدرّب على الزعامة؟ وما العلاقة بين فرقته الراقصة (وهي للأمانة كانت جدّ مضحكة، وخصوصاً عندما حمل أعضاؤها المكانس _ أو المشاعل، لم أستطع أن أتبيّن) وبين الموسيقى وقصيدة «إذا الشعب يوماً أراد الحياة» (مسكين أبو القاسم الشابّي لأن الناس لا يعرفون له إلا قصيدة واحدة، مع أنه كتب الكثير غيرها مثل «كرهت القصورَ وقُطّانها»)؟ لكن ما علينا. لعلّ الرقص والموسيقى والسياسة والطبخ تجتمع في برنامج واحد. ماذا لو أن (مشروع) الزعماء يتدرّبون أيضاً على صنع أكبر طبق تبّولة أو الباذنجان المحشي، لأن في ذلك تحصيناً للزعامة وإيغالاً في اللبنانيّة؟
ثم، لماذا حضر ميشال سليمان (الذي ترجم شاكراً كلمة «زعامة» إلى الإنكليزيّة. لعلّ الرجل ظنّ أنه في بلد أجنبي من كثرة السفر والتجوال حول العالم لأنه «فاضي أشغال»)؟ هل أراد البرنامج تقديم ميشال سليمان كنموذج أو قدوة للزعماء الجدد؟ وهل يملك سليمان من الزعامة أياً من مقوّماتها؟ لا، وقد تحدّث سليمان أيضاً عن الكاريزما (وترجمها لنا شاكراً على أنها «جاذبيّة الشخصيّة») مع أن ماكس فيبر وتوماس كارلايل لم يقصدا الزعيم العمشيتي (المُفترض) في كلامهما عن «الكاريزما» أو عن «البطولة»، في حالة الأخير). ولسليمان (الزائر في لبنان) من مقوّمات الزعامة ما لدى فايز غصن أو سمير مقبل منها. لنقل إن سليمان زعيم بقدر ما أن محمّد كبّارة هو علماني أو بقدر ما أن وليد جنبلاط هو مبدئي. إن دعوة سليمان لتدشين برنامج عن الزعامة هي بمثابة دعوة الملك السعودي لتدشين مؤتمر عن حريّة المرأة. الدعوة نافرة جدّاً. كان ينقص دعوة رجال الدين في لبنان، على اختلاف أشكال قبّعاتهم وعمائمهم. لكن جمع لجنة الحكم في البرنامج فيه بعض من الطرافة من حيث الشخصيّات. الثلاثة (أي الفريق ناقص بارود _ لنا عودة إليه) صريحون (وصريحات). لكن مشهد إبراهيم الأمين وراغدة درغام كان لافتاً، لأنّ غياب الكيمياء كان واضحاً. أكثر من ذلك، بدا كأن الأمين ودرغام اتفقا على عدم الحديث أو حتى التخاطب المباشر أثناء البرنامج، أو حتى أثناء فقراته الإعلانيّة. لكن الأمين ومريم البسّام سيضفيان على البرنامج نوعاً من الجدّة لأنهما صريحان وواضحان ولا يجاملان أو يداوران، وهذا نادر على الشاشات التلفزيونيّة. والفظاضة على الشاشة شيء جديد إذا ما اقترن في برنامج منافسة أو هواة (هواة الزعامة؟) والمشاحنة أو المشاجرة الحادّة القصيرة بين البسّام والأمين عن دور ميشال سليمان كانت أفضل البرنامج، ونرغب بمزيد منها وخصوصاً أن الهواة كانوا وكنّ مبرمجين ومبرجات إلى درجة تدفع إلى الملل. أما الحكم زياد بارود فهو سياسي تقليدي بالمعنى المُزدوج للكلمة: يسعى جاهداً كي يبقى على علاقة حسنة مع الجميع دون استثناء، وهذه من أسوأ صفات رجل السياسة لأنها صنو النفاق. الزعيم الحقيقي هو الذي لا يتمنّع عن التعبير الحرّ، حتى لو أدّى ذلك إلى خسارة في الشعبيّة أو التأييد. لكن أين زياد بارود من ذلك؟ أين كانت زعامة بارود عندما أشرف على أسوأ وأفسد انتخابات نيابيّة في تاريخ لبنان؟ بارود لم يجرؤ على الاعتراض على التدخّل غير القانوني للبطريرك صفير قبل ساعات من الاقتراع. لكن ما علينا. الرجل سيُستبدل عمّا قريب بإعلاني قوّاتي أدّى خدمات جلّى لـ 14 آذار وللجيش الأميركي في العراق من خلال حملات إعلانيّة لم تؤدّ إلى زيادة شعبيّة الاحتلال في العراق.
أما المنافسة، فلم تكن مجدية لأن الأداء كان مُبرمجاً ومحفوظاً إلى درجة زادت من التشابه في المثاليّة بين المتبارين والمتباريات. ألم يكن من الأفضل لو أنّ «الجديد» طلبت من الأحزاب السياسيّة السائدة في لبنان إرسال ممثّل (أو ممثّلة في حالة تلك العقائد التي لا تعتبر المرأة عورة أو ديكوراً) عنها للمنافسة بين ممثّلي أحزاب وزعامات حقيقيّة؟ كان أفضل مثلاً لو أنّ أحمد الأسير أو محمّد كبّارة دشّنا البرنامج الجديد بدلاً من سليمان. كان البرنامج سيكون مسليّاً أكثر لو أن المنافسة حقيقيّة ومحدّدة، ولو أنها جرت حول مواضيع سياسيّة معيّنة بدلاً من الكلام الإنشائي العام الذي لا معنى له. كنت أنتظر من واحد من المتنافسين مثلاً أن يبدأ خطبته بـ«أنا بكسّر أكبر راس» أو بردّ من نوع «ما عارف حالك مع مين عم تحكي؟» أو الإشارة ولو عرضاً إلى حجم العائلة وإلى النسبة العالية من الزعران المسلّحين فيها لتخويف الخصم. كل ذلك لم يحصل. على العكس. الكلام كان عامّاً.
لكن هناك ما هو لافت في التنافس. معيب أن يتحدّث الشباب اللبناني عن زحمة السير أكثر من حديثهم عن الخطر الإسرائيلي الداهم، وخصوصاً أن قادة العدوّ يهدّدون بصورة شبه يوميّة بتدمير لبنان. لن يبقى من سير في لبنان عندما يدمّر العدوّ الجسور والأبنية والطرق والمدارس والمستشفيات. كيف لا يكون موضوع التصدّي لعدوان إسرائيل هو الهم الشاغل للشباب اللبناني؟ وهناك متبار أبدى إعجابه بغاندي. أوّاه، كم هو عذب هذا الهيام بغاندي في بلد لم يُطرد منه العدوّ بالاعتصامات، بل بالنار والحديد والأجساد الحيّة. وعندما سأله بارود كيف سيوفّق بين المقاومة والفكر الغاندي (يُقال إن غاندي تعلّم الرقص البريطاني لإبهار الرجل الأبيض في الغرب، لكن قصّة غاندي قصّة أخرى)، أجاب بأن لكلّ «حالة» (وقالها بالإنكليزيّة تدليلاً على نكهات الزعامة) متطلّباتها. يعني يوم مع غاندي ويوم مع غيفارا، حسب الظروف. وهذه الإجابة تنمّ عن مقوّمات مبكرة للزعامة اللبنانيّة على طريقة وليد جنبلاط: يوم هو جندي في جيش حافظ الأسد، ويوم آخر هو جندي في الجيش السوري الحرّ. يوم هو مع إيران، ويوم هو مع السعوديّة. حسب الظروف يعني. لكن، ماذا سيفعل هؤلاء في الحلقات المقبلة؟ وكيف سيتبارى الفريقان؟ وهل يعود عاصي الحلاني مع فرقته الراقصة؟ وميشال سليمان، كيف سيوفّق بين تدشينه للحلقات وسفراته المُتكرّرة، وخصوصاً أنه يحرص على أفضل العلاقات مع قبرص المتحالفة أمنيّاً وعسكريّاً واقتصاديّاً مع العدوّ الإسرائيلي؟ وهل سيفتي قاضي الأمور المستعجلة ببطلان أهليّة تلك المتبارية التي لمّحت إلى جواز سفر سليمان الفرنسي (مع أن الرجل، للأمانة، تخلّى عن الجواز المزوّر بمجرّد أن طلبت منه الحكومة الفرنسيّة ذلك). وكيف سيعيش الزعماء في ذلك المنزل المجهّز؟ وهل ستقتني لهم «الجديد» خادمات من آسيا وأفريقيا _ على الطريقة اللبنانيّة؟
هناك الكثير من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات في الحلقات المقبلة. والمخرج قد يحسن وظيفة الكاميرات التائهة والضائعة والباحثة عن وجه أو عن زاوية. وكان مشهد المتبارية المطرودة مؤلماً وهي تخرج مُصفّقة مع الجمهور (لطردها؟) ولو كنت في لجنة التحكيم لأكثرت من الأسئلة. بودّي أن أسألهم وأسألهنّ عن مستقبل لبنان: هل يعود لبنان بالفعل «أحلى» مما كان كما تعدنا أغنية «راجع، راجع يتعمّر، راجع لبنان»؟ ولماذا يهزج الشعب اللبناني لتلك الأغنية، مع أنها لا تعد هذا الشعب إلا بالحروب الأهليّة المتوالية؟
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)