لا يمكن أن يكون الجرد جرداً أكثر من ذلك: صلفاً، جذاباً، ومتروكاً للجبال العملاقة. تقود الطريق إلى القصر، آخر القرى اللبنانيّة رسميّاً على الخريطة، قبل الوصول إلى الأراضي السوريّة. لا فارق كبيراً بين الهرمل والقصر إلا نفحة المدينيّة في مدينة القضاء الناتجة من زحمة طفيفة. في القصر، الشوارع بأسماء الشهداء الذين سقطوا أثناء قتال الإسرائيليين: يوسف قطايا وعلي الصميلي وعبدو فهدا. ذكريات لم تُقتل بعد. المنطقة طبيعيّة ولا يشعر المتجول فيها بوجود حدود تنتهي في آخر القرية. الحكايات تبدأ هناك، بعد حاجز «الهجّانة» الأول.
الحوض اللبناني في سوريا

نتحدث عن 40 ألف لبناني خلف الحدود، تحديداً بعد حاجز القصر ـــ زيتا الأول. تراجع العدد إلى ثلاثين ألفاً بعد موجات التهجير المتلاحقة، وهؤلاء يقيمون الآن في تلك البيوت الضيعاويّة منذ زمن سحيق أكثر من اللزوم. يزرعون الأراضي ويربون الإوزّ والأبقار والماعز. هم، بشكلٍ عام، مسالمون الى حدّ الملل. زيتا أكبر قراهم في «الحوض اللبناني» من العاصي. والتسمية (حوض العاصي) مستخدمة تاريخيّاً لوصف القرى المحاذية للنهر الأسطوري الذي يتباهى أهله بضفافه. لا يفقه هؤلاء «الاستراتيجيّات الكبرى»، وليس بينهم راديكالي إلا في الموروث الجبلي العام. مزارعون تقليديّون، وكأن النعت الأخير محاك على مقاسهم. تدل البلدة القديمة ببيوتها الطينيّة على وجودهم. مدينة أثريّة قديمة أسّسها جدودهم، عندما كان المسيحيّون يقيمون في قريّة وادي حنا القريبة. يقول العارفون إن في زيتا الآن بين 5 آلاف و10 آلاف ساكن. كانوا في الأصل أقل من نصف هذا العدد. النزوح إلى القرية ضاعف العدد. لكنها أرض رحبة لا يظهر عليها أي اكتظاظ. اعتادت النمط السوري في العيش والاقتصاد. الكهرباء لا تنقطع. مجانيّة. المازوت أرخص من لبنان بأربع مرات. قيمة ربطة الخبز 35 ليرة سوريّة، كيلو البندورة 100 ليرة سوريّة، كيلو اللحمة 400 ليرة سوريّة. أرقام غير موجودة في لبنان المكلف.
اليوم، تفوح رائحة الحرب بين البيوت، وتظهر الغربان على تقاطعات الطرقات المسيّجة بالأشجار التي لم تتعرّ، رغم أنه كان شتاء حاداً. كثافة الأشجار حضّت مقاتلين من المعارضة السوريّة على الجنة. نصبوا الكمائن وراحوا يغزون القرى. هوجمت القرية أكثر من مرة، فخطف أهلها وقتل منهم، على غرار السائد في سوريا. نذكر منهم، على سبيل المثال لا الحصر، موفق العباس، خضر جعفر، وبعدهما عبد الله الزين. طمر الغزاة مواطناً من آل مسرة تحت الثلج 3 أيام، لكنه نجا. يتحدث «السكان المحليون» عن مخطوفين وضحايا في قرى حوض العاصي بالمئات. في نيسان الماضي، وجدت القرية نفسها في مواجهة مع مقاتلي المعارضة، بعد ظهور «جبهة النصرة» في القرى المحيطة. ومذ ذاك صار الموت لغة المكان. في أيّار، بعد شهرٍ واحد، تدخلت الجهات الحزبيّة في المنطقة، وظهرت «اللجان الشعبيّة» التي تعدّ تسمية فضفاضة، كون مقاتليها يشكلون خليطاً من حزبيين (قوميين سوريين وبعثيين) وسكان محليين، هبّوا للدفاع عن أرضهم ضدّ «غزوات النصرة» وبطولات «كتيبة الفاروق».

«النصرة» على «التماس»

تلهث الطريق من القصر إلى زيتا. أرض واحدة تفصلها «القناة». ما الحدود بين لبنان وسوريا إلا لعنة قديمة تتجاوزها الديموغرافيا. نظراً الى مساحة زيتا الكبيرة، يتوزع السكان على نحو مريح، فلا يخرج اكتظاظ إلى العلن. تسرح المواشي التي لا تفقه في الحروب، وأحياناً تظهر طيور قليلة لتحتكر السماء، طيور تآلفت مع المدافع القريبة. الغربان بينها ليست الدليل إلى الموت، إنما شاهدة على غزوات الآخرين، الذين لم يسمعوا بالفيلسوف الفرنسي، جان بول سارتر، ورغم ذلك يهجمون استناداً إلى «قاعدة» واحدة: «الآخرون هم الجحيم». «قاعدة» تبدأ من الشيشان، تمرّ من العراق، ولا تنتهي في سوريا. نفوس سكان هذه القرى، غالباً، في الهرمل والقصر. وبلا لف ولا دوران، إنهم شيعة، وبينهم علويون ومرشديّون مسجّلون في عكار. لا يروق ذلك المهاجمين القادمين من القرى السوريّة. للمناسبة، حزب الله في القصر والهرمل هو حزب الله في بيروت والضاحية الجنوبيّة. وتالياً، هو نفسه إن وجد له مناصرون أو محازبون ولدوا وعاشوا لبنانيتهم في سوريا. ستسمع خطاب الحزب المعلن نفسه: لا يريد الحزب زاروباً مذهبيّاً يقاتل فيه، بعدما انحصر «مجد» قتال العدو الإسرائيلي فيه وحده.

ستسمع خطاباً متقدماً سيروق الأميركيين أنفسهم إن سمعوه: «11 أيلول لا يمتّ إلى الإسلام بصلة، إنه عار على المسلمين، وليس من ثقافتهم قتل الأبرياء». لا ينفي ذلك أن «صبغة» حزب الله الشيعيّة واضحة في القصر والهرمل، كذلك الأمر في القرى الشيعيّة شرق العاصي. ولكن في القصر 3 آلاف نازح سوري، بينهم نازحون من حماه وإدلب ومن خارج النسيج المذهبي للقرية. ربما تولت «جبهة النصرة» إدارة العمليّات الحربيّة على «خطوط التماس» لتواجه بيئة الحزب. انكفأت «كتيبة الفاروق» إلى القصير وريفه أخيراً لهذه الأسباب «اللوجستيّة»، هكذا يقولون في القصر التي اكتسبت اسمها قبل 300 عام لوجود قصر مهجور فيها، فيما تخسر القصير اليوم 3 ملايين ليرة سوريّة حسب تقديرات المتابعين جراء مقاطعتها أهالي الهرمل المشتاقين إلى حمص. وللمناسبة، ترزح القصير، بأسرها، تحت سيطرة المعارضة السوريّة. وفيها، سجن مكان بلديّة القصير، قناصون متجولون، حواجز ثابتة ومتحركة، ولجان محليّة تسيّر الأمور إذا سارت. لكن، في أماكن المواجهة، تصدت «جبهة النصرة» لإدارة الغزو. يعني أن الهرمل اللبنانية بعيدة ربع ساعة فقط عن «جبهة النصرة». أمتار معدودة. هذا ليس تخويفاً، بل إنها خريطة ملحوظة بالعين المجردة. في الأصل، نزح الجميع، شيعةً وسنةً، إلى ريف حمص، في الفترة التي نزحت فيها عائلات زعيتر ومدلج وخير الدين والهق والحاج حسن وحمادة إلى الهرمل والبقاع. نزوح قروسطي لا يمت إلى الحاضر الساذج بصلة. مهلاً، تعرفون هذه العائلات. إنها لبنانيّة. لبنانيّة أكثر من اللزوم لجهة الوقع الموسيقي. في هذه القرى، يقطن بعض السوريين. ولا أحد يميّز هناك، صارت الهويّة هي المذهب، هويّة متسلحة بمنهج تكفيري، يحدد علاقة الأقليّات بالنظام، ويحدد عداء التكفيريين أنفسهم لكل ما هو متحرك على غير صورتهم الدينيّة. وإذ نتحدث عن صورة مختلفة مذهبيّاً، نتجه صعوداً، إلى العقربيّة، معقل المرشديين والعلويين في ريف المدينة.

العقربيّة مقابل القصير

العقربيّة، ريف القصير. هناك، خلف أشجار السرو الراقصة للهواء، على بعد 200 متر متاحة بالعين العابرة فوق السهل كاسمه، يتمترس مقاتلو «جبهة النصرة». بدأنا بالمقلوب. من خط التماس المكشوف على جميع احتمالات الموت. «جبهة النصرة»، والبقيّة تأتي. أن ترى مقاتلاً من «جبهة النصرة» بالمنظار، شعور لا يعرفه إلا صاحبه. وفي قرى (العلويين والمرشديين) العقربيّة، القرنيّة، الناعم، ودبين، لا تبدو صورة «الجبهة التكفيريّة» مضخمة. لا نقول هنا إنهم مخلوقات من كوكب آخر، أو أن اللحى المرسلة إلى الأرض هي سبب تنميطهم على هذا النحو. إنهم رجال سبق لهم أن أعدموا العلويين في الحيدريّة. قتلوهم تحت صيحات «الله أكبر». وما زالت الأصداء مسموعة: الغسانيّة محاصرة، لا يمكن الوصول إليها براً، إذ يتمركز مقاتلو «الفاروق» و«النصرة» في القرى الحمصيّة القريبة: الرحمونيّة، الرضوانيّة، والشومريّة. يقصف الجيش السوري أحياناً هذه القرى، ما يخفف الضغط عنها، لكنه لا يلغي حصارها. نحن في حرب واضحة. يتنقل الغسانيّون بحراً عبر بحيرة قطينة ويصلون إلى «المناطق الآمنة». البحيرة لا تضحك وفيها مقذوفات قناصة «النصرة» المهرة.

كانت لهم سماء بعيدة في العقربيّة ولكنها تقترب. تطبق على قلوبهم، وتهطل منها قذائف بدلاً من المطر. آخر محاولة لاقتحامها كانت قبل أسبوع. 27% من النازحين فيها. القرية التي علّق مقاتلوها عقارب في صدورهم خلال «معركة قادش» قبل الميلاد بألف عام، فيها 180 أسرة لبنانيّة، و247 أسرة سوريّة. 18% من النازحين لبنانيون، جاؤوا من أبو حوري والحيدريّة، إضافة إلى عائلة كاملة من 400 فرد هجروا من الجواديّة التي نجت أكثر من مرة من التهجير بفضل «العقلاء في عرجون». سقطت عرجون في يد «النصرة»، فترك «الجواديّون» بيوتهم وأرضهم وهربوا إلى العقربيّة. تصلهم الآن مساعدات «طفيفة» من الصليب الأحمر السوري والهلال الأحمر السوري، فيما العالم لم يعترف بنزوحهم بعد. 1700 عائلة في القرية، يصل «التموين» السوري إليها من الطحين ما يكفي لإنتاج 900 ربطة خبز. يؤمّنون ربطات إضافية من طرطوس بسعر مضاعف للربطة (50 ليرة سوريّة)، ولكن يبقى جائعون كثر. ستجد في العقربيّة شباباً فقدوا مقاعدهم في جامعات حمص، وأولاداً ينامون في مقارّ بلديّة، بعدما امتلأت البيوت بالنازحين الأوائل. سوق العقربيّة تقليديّة، وفيها من الحياة ما لا يتوافر على خط التماس على تل السيح. في السوق صبايا بشعور طويلة ومجدّلة، وشباب يقودون دراجاتهم الناريّة بزهو. ناس يتابعون حياتهم رغم احتمالات القصف المفاجئ. يقولون هناك: «حالنا أفضل من ربلة المسيحيّة» التي فتك فيها القنص والقصف فتكاً. في قرية الناعم القريبة تجري الأمور على النحو نفسه. كتبوا «مبروك لعاشقات ريال مدريد» على جدار طاولته قذيفة، وفي دبين، بعد العقربيّة مباشرةً، تدب بحيرة قطينة في النهاية شيئاً من الحياة المفقودة في ريف حمص وفي سوريا عموماً. ليس هناك موت راقٍ وموت شنيع. ليس هناك قاتل جميل وقاتل دميم. إنما الموت في سوريا، رجل يقف أمام مرآته، ويطلق النار بلا توقف.
الناس في القرى العلويّة لا يحبّون «الشبيحة». سرقهم هؤلاء وأذلوهم. يثقون الآن بما يسمى «قوات الدفاع الوطني». وفي أية حال، لا يزال رجل الاستخبارات السوري على صورته التي نعرفها. يطل إلى الحاجز بعينين قاسيتين كأنهما من صخر لا يبرق، وساعده يقبض على «كلاشنيكوف» بقسوة، كأنه متأهب دائماً. عينان جافتان صارمتان، وفم ناشف يقذف الكلمات من فمه ببطء، واثقاً من سلطته، غير آبه بالواقف أمامه. ولكنها حالة لا تطول كثيراً، بل «قصة ثوان». إنها سلطة مكسورة، وصاحبها فقد هامته المرعبة، فبقي منها شظايا الهيبة السابقة. خسر الجندي السوري هالته تقريباً، وصعد مكانها، هناك، في الأرياف، نوع آخر من الجنود: «جنود الله». جنود الغيب القادمون للذبح باسم «الثورة» بعدما ذبحوها وأقاموا الصلاة على جثتها. إنهم «المهاجرون والأنصار» في «جبهة النصرة» وأحفاد عمر الفاروق في «لواء التوحيد». الحاكمون بأمر الثورة والناهون عن الجنة في ريف حمص والقصير. المشهد أصدق من الخطاب الطافي على سطح المجزرة. والقصة أعمق من «مؤامرة» على المقاومة اللبنانيّة، المتمركزة أصلاً في مكانٍ بعيد، ومن «ثورة» شعب مفترضة ضدّ نظام لا يختلف اثنان في كونه قمعيّاً. في حمص، انتفضت المذاهب، وتدفق التكفير إلى المعركة على الطريقة العراقيّة. لم تتعلّم هذه المنطقة من درس العراق، استخفت به حتى صار قرآن الجماعات التكفيريّة الذي يرتمي في أحضان المهمشين. نتحدث هنا عن ثقافة لم تهطل بالباراشوت على المنطقة، وعن رجال جاهزين للذبح لا يمكن الاستخفاف بما يجول في رؤوسهم. لقد اقتربوا كثيراً ولا شيء في رؤوسهم إلا رؤوس الآخرين مقطوعةً. إنهم جنود الله، التواقون إلى حمل السيوف، الذين يسعى أهل الشاشات في الثورة إلى تبييض رغباتهم، بينما هم لا يرضون إلا الأسود راية للجهاد الذي استفحل، وقد صبغوا حُمص بسوادٍ رهيب.




خطوط المواجهة المذهبيّة

تمتد القرى في حوض العاصي على خط طولي محاذ للقصير وريفه، يمتد من مطربا (700 ألف نسمة)، السغمانيّة (500 نسمة)، الفاضليّة (1000 – 2000 نسمة)، حاويك (2000 – 3000 نسمة)، الصفصافة (500 نسمة) والحمّام مثلها تقريباً، وقرى أخرى كثيرة تصيب القلب بالفرح لشدة اخضرارها، كالجنطليّة والفاروقيّة وحوش السيد علي. نتحدث هناك عن 31 قرية (15 منها سكانها لبنانيّون تماماً) في محافظة حمص، بوجود لبناني واضح وراسخ. على سبيل المثال، لا الحصر، نذكر بلوزة، قرية الوزير السابق والنائب غازي زعيتر، ووادي حنا المسيحيّة قبل العثمانيين. وللمناسبة، جميع آل صقر ينتمون إلى زيتا في الأصل. من القرى التي لم يحاول المسلحون اعتراضها المصريّة والسويديّة، علماً بأنها تتوسط القرى الشيعيّة. وهكذا تصبح الخريطة على الشكل الآتي: قرية بسكان أقلويين، وقرية مقابلها تحت سيطرة «النصرة». زيتا الشيعيّة تواجهها سقرجة التي التحق بدوها وعربها بـ«النصرة»، كحال توأمتها البرهانيّة. وهناك الصفصافة التي تهجّر تلامذتها إلى مدرسة حوش السيد علي، وهي تلاصق بلدة الحمّام التي تصدّت لهجوم زحف فيه «الجيش السوري الحرّ» من قرى النهريّة، الخالديّة، وأبو حوري (التي هجر سكانها من الأقليّات). وهناك السغمانيّة، التي تحسب خطاً ناريّاً آخر، تتعرض للقصف والقنص أحياناً من مواقع «النصرة».