أبرزت الثورتان المصرية والتونسية، أن أكبر أخطائهما، كان الانشغال بوضع أهداف عامة للثورة وتحويلها إلى برامج وقضايا للصراع، والاقتصار على شعار إسقاط النظام؛ فإسقاط النظام سيتم، وذلك بفعل المد الشعبي الواسع للثورة، وبفعل التأزم الشديد الذي تعانيه تلك الشعوب، لا بفعل المعارضات العربية البائسة. وهذا يفترض بالمعارضات الاهتمام بهذه المهمة الشعبية بامتياز، والعمل على وضع تصورات عامة تخص الدولة المستقبلية بدلاً من الانشغال الكامل بتوزيع الكراسي؛ المعارضة السورية، ولا سيما المنضوين في الائتلاف الوطني الجديد، أكثر دعاة الإقصاء لكل من يعمل على وضع تصورات بعيد إسقاط النظام، أو وضع أهداف عامة للثورة تتساوى مع حاجات الشعب المتعددة المستويات، وهذا منذ لحظة إنشاء المجلس الوطني الذي حجز لنفسه حصة الأسد فيه، ومن دون أن ننسى أن الائتلاف جاء إنقاذاً له من السقوط.
إن سرقة الثورات العربية، لمصلحة نظم تشبه النظم السابقة، ولا سيما في حقل الاقتصاد، حيث تُتّبع السياسات الليبرالية نفسها، هو ما يفجر تلك المجتمعات بصورة مستمرة. وسيبقى ذلك يتكرر ما لم يتم الإقلاع عن تلك السياسات التدميرية، وانتهاج سياسات تنموية فاعلة تبدأ من تفعيل مشاريع صناعات رئيسية ودعم الزراعة، ووفق ذلك يجري الاهتمام بالاقتصاد الريعي، من مصارف وفنادق وغيرها. الثورة السورية، لها هدف اقتصادي، ويتمثل في إنهاء حالة البطالة وإعادة الحياة إلى الزراعة والاستثمار الصناعي، والآن إعادة بناء البنية التحتية المدمرة، ومختلف المشاريع الصناعية. إن هذه القضايا، تعدّ لها مشاريع دولية عبر «شركات عالمية» ستُكمل تدمير ما قام به النظام، وستنهب ما تبقى من الثروات السورية، وهو ما يعمل له الائتلاف الوطني حالياً. لذلك يجب فضح هذه السياسات الليبرالية والابتعاد عنها، لمصلحة مشروع وطني بامتياز، يشترك فيه القطاع الخاص والعام، ووفق سياسة عامة تؤدي إلى إنهاض سوريا من الناحية الاقتصادية؛ في تونس ومصر، تتجدد الثورة، بوجه منها، بسبب تجاهل هذه الفكرة، وبسبب اتباع سياسة ليبرالية، لن يعرف غيرها «الإخوان» المسلمون وكافة تيارات الليبرالية، الذين هم أيضاً أحد أشكال النظام الليبرالي في حقل السياسة؛ فتونس ومصر عقدتا من جديد اتفاقيات مع البنك الدولي للتمويل، وهو ما ساهم في تفجير تلك البلاد.
المشكلة الثانية، التي لا يستطيع الإسلاميون تجاوزها كما يبدو، وقد تكون السبب في تراجع شعبيتهم وإظهار عقلانية الشعب وفهمه، أن الدين شيء، ومسخّري ومسيسي الدين شيء آخر، هي مسألة العلاقة بين الشريعة والدولة؛ ففي الوقت الذي لا يرفض أحد من التيارات الحداثية الاستئناس بالشرائع السماوية، يصرّ الإسلاميون والطائفيون على اعتمادها المرجعية الوحيدة للدستور وللقوانين، وبالتالي لشكل النظام السياسي ولضبط حيوية المجتمع في صدفة الشريعة وفق تأويلهم السياسي له! وهنا يقع الخطأ الفادح. حل الإشكال، ودفع كل القوى السياسية، ومنها الإسلاميون، إلى المشاركة السياسية، متعلقان بإبعاد الشريعة وكل شريعة عن الدستور والقوانين، واعتماد مبدأ المواطنة، وأن كل ما يخالف مبدأ مساواة الأفراد بالدستور والقوانين يعاقب وفقاً للقوانين السائدة. وبالتالي، هنا يمكن دغم المعتقدات بقضايا السياسة والدولة وكل أوجه الحياة. من دون ذلك، والاستمرار في محاولة التسلط على الدولة والسياسة والتعليم والاقتصاد وغيره، سيكون الطريق الملكي لنبذ الناس للإسلاميين وللطائفيين بالعموم، والعمل على تدعيم كل ما ينزه الدين ويبعده عن سوق المتاجرة، وتعزيز فكرة المواطنة والمساواة والعدالة من جديد؛ هذه القضية يقع على الثورة السورية حسمها، والقطع فيها وعدم تقديم أي تصورات عن الدستور والقوانين وشكل النظام السياسي تنطلق من الدين، أو تسمح للطائفيين باستخدام الدين؛ هذه قضية إشكالية، تحرف الثورة والمجتمع نحو ميول تعيق تطور الثورة وتحتجزها في مشكلات لا تمت إلى الثورة بصلة، وتضعف البلاد وتدخلها في مشكلات أهلية وسياسية، السوريون بغنى عنها، المصريون والتوانسة يغرقون فيها. العمل على فصل السلطات فصلاً تاماً، وتكوين قضاء مستقل يكون له وحده الحق في فصل النزاعات والمشكلات بين الموطنين ومع الدولة، وأن يكون له وحده الحق في تحديد شكل المحاكمات للذين مارسوا القتل أثناء الثورة. وبتحقق الفصل بين السلطات، ستبدأ سوريا مرحلة جديدة، من إعادة بناء الدولة بعيداً عن قيم التداخل بين السلطات والفساد والنهب والجماعات المتحالفة معاً لغايات تسخير الدولة لمصلحتها. وبالتالي ستكون لدينا إمكانية حقيقية للتطور. المصريون والتوانسة لم يتجاوزوا ذلك، ولا تزال الصراعات السياسية تقف حائلاً دون تكريس فصل السلطات. فصل السلطات لا يحل كل المشكلات، لكنه يسمح للمجتمع بالعمل بحرية مطلقة ووفق ما تنص عليه القوانين. إعادة الجيش إلى ثكنه، وحل كل الكتائب المسلحة أو دمجها في الجيش الوطني، وتفكيك أي كتائب مبنية وفق الدين أو الطائفة، واستعادة كل أنواع الأسلحة ووضعها في خدمة بناء جيش وطني من جديد، والإقلاع عن فكرة خدمة العلم، وتفكيك الأجهزة الأمنية السابقة، لأنها أجهزة مختصة بالتسلط والهيمنة والقمع والقتل للمجتمع والسياسة والدولة، وبقاؤها يعني بقاء ذلك المنزع لديها، لذلك فإن عملية بنائها من جديد، تقع في صلب الدولة المقبلة؛ مصر تقول لنا هذا وتونس كذلك، رغم أن الجيش نأى بنفسه عن الصراع في كلتا الدولتين، لكنه عاد وكرّس نفسه في مصر، وكاد أن يطيح الثورة، وفي تونس تُستعاد الممارسات القمعية للأجهزة الأمنية ذاتها؛ صحيح أن الفصل ضروري بين الأجهزة الأمنية والجيش، إلا أنهما المؤسستان المكرستان للأعمال القمعية لثورات الشعوب، ولتأبيد الطبقات المسيطرة.
العمل على تقويم وضع التعليم بأكمله، وإيقاف كل مشاريع التعليم الخاص لأنه كان عملية غسل للأموال المنهوبة تقريباً، وإعادة النظر فيه بما يسهم في تدعيم عملية المعرفة والعلم وفي تواؤمها مع حاجات الواقع المتعددة، فقد لعب ـــ الخاص ـــ دوراً في تدمير التعليم العام، وهناك ضرورة لفتح جامعات جديدة، وتحسين وضع الجامعات القائمة، وأوضاع المدرسين والمعلمين بالعموم، وإعادة القيمة والاهتمام إلى دورهم بما فيه مسألة الأجور؛ قضية التعليم هي قضية المستقبل، ودولة لا تهتم بالتعليم هي دولة لا مكان لها بين الدول الساعية نحو التقدم.
محاصرة كل أشكال التأزيم والمشكلات ذات الطابع الطائفي والقومي، وحلها بما يسهم في تعزيز ثقافة المواطنة والحقوق العامة، ووفق هذه المبادئ، والعمل جدياً على تحويل موضوع الدين والتدين إلى موضوع شخصي وأخلاقي وديني عام، وموضوع بحث ومعرفة، والسماح للباحثين بممارسة حريتهم الكاملة في البحث المعرفي في شؤون الأديان والمذاهب، لكونها قضايا تخص الشعب بعموميته وتخص العلم، ولا يحق لأية جماعة دينية أو حزب طائفي منها احتكارها أو تسخير قضايا الأديان والمذاهب لمصلحة تعزيز مشروعه السياسي؛ ففي النهاية، ومهما قيل عن حصر التمثيل الديني والحق بإبداء الرأي القطعي فيه لجهة معنية، فإن كل ذلك يخوضه لمصالح تلك الفئات ولو كانوا أفراداً قليلين. ويبقى السؤال: ما هو الحق الذي يعطي فلان ما، تمثيل الشرع المقدس لجماعة بشرية والنطق باسمها؟!
الإقرار بأن للمرأة حقوقاً مساوية للرجل، في الدستور والقوانين، بما فيها قوانين الأحوال الشخصية، والإقلاع عن التذرع بالشرائع السماوية، لإبقاء المرأة في الموقع الأدنى إزاء حقوق الذكر. وبالتالي ضرورة أن تكون المرأة شريكاً كامل الحقوق في الدولة المستقبلية؛ هذه قضية متصلة مباشرة بقوانين الأحوال الشخصية، وبتحققها نكون حداثيين بالفعل، وبموقع التجاوز لعقلية القرون الوسطى التمييزية ضد المرأة. مسألة المساواة بين الأديان، غير ممكنة من دون تحييد الدولة عن الأديان، وبوقعنة ذلك التحييد، تبدأ سوريا مشوارها نحو الحداثة والتطور العام؛ مصر وتونس لم تستطيعا ذلك، كثير من المعارضين السوريين يخشون المواجهة مع التيارات الأصولية والتكفيرية والمتشددة، لكنّ ذلك سيقع، ومن دون رؤية واضحة لهذه القضية ستتعطل الثورة قليلاً إلى أن يتعلم الشعب من جديد ضرورة تلك المساواة، ويستأنف الثورة من أجلها.
يمثل موضوع الدفاع عن النقابات والاتحاد والجمعيات، كتمثيل مدني، حلقة الوصل بين الشخصي والعام، فهي تنقل الوعي من المتوارث اجتماعياً إلى فكرة الحقوق والحق في المشاركة السياسية. ضرورة هذه التشكيلات المدنية، ضرورة حياة للحفاظ على حقوق الطبقات الشعبية، عبرها ومن خلال الأحزاب السياسية المتعددة. دولة حديثة بلا نقابات وأشكال تنظيمية لتوحيد أعمال الجماعات البشرية وفق مبدأ المواطنة هي دولة ينقصها الكثير لتكون حديثة، بل ولتكون دولة.
دروس الثورات العربية، يفترض بالسوريين الاستفادة منها بدقة كي يتجاوزوا مشكلاتها وعثراتها؛ صحيح أن الثورات لا تورث ولا تنقل ولا تصدر، لكن تجاربها تدرس ويستفاد منها، وخاصة أنّ أسبابها متشابهة بالعموم، وقد يكون بعض من قوانينها قوانين عامة.
* كاتب سوري