فراس خطيب
بعد حرب الـ 1967، برزت في اسرائيل تجارب نقديّة كسرت «الإجماع القومي» لشعب أسكره النصر. بين انضجها، وأكثرها راديكاليّة، تجربة الكاتب المسرحي حانوخ ليفين. أنطوان شلحت يعرض مسيرته الغنية، واضعاً إياها في سياقها التاريخي. ويلاحظ الناقد الفلسطيني أن «مسرح الاحتجاج» الاسرائيلي يعيش اليوم في غيبوبة

مثلما هزّت النكسة الضمير العربي، لا شك في أنّ حرب حزيران (يونيو) 1967 مثّلت مفترقاً حاسماً في تاريخ إسرائيل، دولةً ومجتمعاً. وتجمع الدراسات التاريخية والسوسيولوجية على أنّ تلك الحرب كانت فاتحة لتطرّف المشروع الاستعماري الصهيوني في فلسطين. فيما أفرزت الصدمة وعياً جديداً، وإن هامشياً، في المجتمع الاسرائيلي لقضايا الشعب الفلسطيني وحقوقه.
في كتابه «خداع الذات» الصادر عن «مدار» (المركز الفلسطيني للدراسات الاسرائيلية ـــــ رام الله)، يسلّط الناقد أنطوان شلحت الضوء على تلك الحقبة الزمنية من خلال رصد تجربة كاتب مسرحيّ إسرائيلي يدعى حانوخ ليفين (١٩٤٣ ــ ١٩٩٩). كان هذا الأخير شاباً عندما أعلن تمردّه على «الإجماع القومي» الاسرائيلي بشأن الحرب. وهو ما جعله عرضةً لحملة شرسة شنّتها المؤسسة السياسية والثقافية والإعلامية الإسرائيلية التي كانت «ثملة» بنتائج الحرب. هذه الحرب التي لا تزال توصف في قاموس الغرور الإسرائيلي بأنّها «حرب الأيّام الستة التي هزمت فيها إسرائيل ثلاثة جيوش عربية».
لكن قبل التحدّث عن هذا الفنان المسرحي الاسرائيلي، يؤكد المؤلف أنّه لا يمكن تناول حرب الـ 1967 وتأثيرها في المسرح الإسرائيلي بمنأىً عن تحليل دور هذا المسرح في المشروع الصهيوني واستعمار فلسطين. هكذا، يستعيد شلحت تأسيس ما سُمّي «الشتات اليهودي» عام 1917 على يد ممثّلين روس من أصل يهودي، أسّسوا فرقة مسرحية عبرية باسم «مسرح هبيما» سرعان ما انتقلت إلى فلسطين عام 1928 واستقرّت في تل أبيب. ولا تزال تحمل هذا الاسم حتى يومنا هذا. وفضلاً عن تجنّد الفنانين أنفسهم لنشر الفكرة الصهيونية عن «الانبعاث القومي»، فقد أَولى قادة «الييشوف» (المستوطنات الصهيونية في فلسطين قبل 1948) اهتماماً خاصاً للنشاط المسرحي. وأرادوا عبره نشر الأفكار الصهيونية المختلفة. وبرز في صلب هذا الاهتمام الدعم المادي المباشر الذي قدّمه «الييشوف» إلى الفرق الفنية والمسرحية بهدف «خلق قاعدة روحية وجدانية للمهاجرين اليهود، من مختلف بقاع الأرض، والمرشحين لأن يكونوا مجتمعاً قومياً واحداً في فلسطين».
مقابل هذا الدعم، طلُب من تلك الفرق أن تنضوي تحت لواء الفكر الصهيوني، وتتناول في نشاطها كل موضوع يستند إلى «الإجماع القومي الصهيوني». ويشير أنطوان شلحت إلى أنّ جميع هذه الحقول الإبداعية في تلك الفترة كانت بمثابة «منظومات أيديولوجية» تجنّدت ـــــ مثلها مثل المدارس وحركات الشبيبة وغيرهما ـــــ من أجل «إنتاج أساطير قومية لدولة جديدة تحتاج إلى هوية وإلى تعريف ذاتيّ» وللتعبئة لها. وقد تمّ القيام بهذا الدور أيضاً مباشرة بعد حرب حزيران 1967، وهو ما يوضح دلالة الاستثناء الذي مثّله المسرحي الاسرائيلي حانوخ ليفين.
يحتوي «خداع الذات» على ترجمة كاملة لثلاثة نصوص مسرحية كتبها ليفين وهي: «أنت وأنا والحرب القادمة» (كباريه ساخر) و«كتشوب» (استعراض ساخر) و«ملكة الحمّام» (استعراض ساخر). ورافقت الترجمات دراسةً مطوّلةً عن المسرح الإسرائيلي وموقع حانوخ ليفين في هذا المشهد. وقد كان نصّه الأخير «ملكة الحمّام» أكثر ما أثار حفيظة المؤسسة الإسرائيلية. ولذا ركّزت هجومها عليه، فاضطر «مسرح الكاميري» أحد أكبر المسارح في تل أبيب إلى إيقاف المسرحية بعد 19 عرضاً فقط.
يشير شلحت إلى أنّ «بطل حرب حزيران» اللواء موشيه دايان، جاء بنفسه لمشاهدة العرض. وإثر ذلك، أدلى بتصريح للإذاعة الإسرائيلية قال فيه: «هل فكرتم بما سيحدث لو أخذوا هذه المسرحية مثلما هي وعرضوها على الجنود المصريين في الطرف الثاني، أي في الطرف الغربي من القتال؟ أي متعة كبرى كانت ستغمر الجيش المصري لو أنّهم أطلعوه كيف أنّ مسرح «الكاميري» التابع لدولة إسرائيل يصوّر رئيس الحكومة ووزير الخارجية وكل واحد ممسك بعضوه التناسلي...».
يعرض ليفين من خلال نصوصه الحرب عامة، ولا سيما حروب إسرائيل من وجهة نظر مناهضة للعسكرة بوضوح. ويرى أنّ الحرب هي إلغاء لإنسانية الإنسان ولا تحمل سمات البطولة... لا حضور فيها للشعب والوطن والتاريخ، فقط للقتل والموت. ويرى أن أي مظهر قومي أو وطنيّ هو مظهر عسكري قبل أي شيء، إضافة إلى كونه تعبيراً واضحاً عن إسقاط إنسانية الإنسان، باسم شعارات فارغة وأساطير فاقدة لأي معنى أو دلالة.
وبهذا المعنى، فإنّ ليفين ـــــ وخلافاً لجميع المسرحيين الإسرائيليين الذين سبقوه أو عاصروه ـــــ أعلن قطيعة مع «الإجماع». لقد ظهرت قبل ليفين مسرحيات إسرائيلية حاولت، بشكل أو بآخر، أن تعرض الحرب من زاوية «اللا بطولة»، مع طرح بعض علامات الاستفهام (مثل بعض أعمال نيسيم ألوني) لكنّها لم تتعدّ ذلك إلى التصادم مع «الإجماع».
هكذا، قدّم ليفين أنماطاً جديدة من المسرح الإسرائيلي الآني، وجدت انعكاساً لها في المسرحيات التي كتبها في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته. كذلك تأثر به كتّاب مسرحيون آخرون، لعل أبرزهم عاموس كينان ويوسف موندي. لقد حاول هذا المسرحي المغرّد خارج سربه، فضح «الزهو القومي الزائد للإسرائيليين وتغاضيهم عن (الآخر) العربي». واشتملت مسرحية «ملكة الحمّام» على مشهد بعنوان «سمطوخة» قدّم خلاله شخصية العربي من خلال النظرة الإسرائيلية الرائجة عنه.
يشير أنطوان شلحت الى أنّ ظاهرة ليفين لم تتكرّر في المسرح الإسرائيلي، حتى بعد وفاته عام 1999، ويشدّد على أنّ «مسرح الاحتجاج» الاسرائيلي يعيش اليوم في غيبوبة. من هنا، يخلص إلى أنّ المؤسسة الرسمية في إسرائيل «أفلحت في تجويف نفوس مبدعيها من مشاعر القلق حيال تآكل المبررات الأخلاقية لأفعالها»، ونجحت في دفع المبدعين الإسرائيليين إلى إغفال فكرة أنّ دوراً نقدياً يضطلع به «الكاتب في مجتمعه». وحده حانوخ ليفين كان استثناءً في زمنه وظلّ كذلك حتى رحيله.