لليمن بشماله وجنوبه تاريخ «غير ودي» طويل مع جارته الدولة السعودية بنسخها الثلاث. على مرّ عقود من الزمن، اصطبغت العلاقة بين الطرفين بالخصومة التي تقلبت بين مدّ وجزر، وبلغت في أحايين كثيرة حد العداء والاحتراب. المفارقة التي لا يفطن إليها كثيرون هي أن الشطر الجنوبي من هذا البلد، كانت أشد ملازمة لموقع التضاد مع النظام السعودي من نظيره الشمالي. يتضح ذلك من خلال سلسلة شواهد تاريخية، تبدأ منذ ما قبل الاحتلال البريطاني لليمن الجنوبي وصولاً إلى ما بعد توحيد الدولتين. ويزخر تأريخ الغزو الوهابي للحواضر اليمنية إبان الدولة السعودية الأولى بالكثير من الجرائم التي شملت غير منطقة في الشمال والجنوب من حضرموت إلى الحديدة مروراً بصنعاء. وتنوعت تلك الجرائم بين القتل والتدمير وإحراق المكتبات وهدم الأضرحة وملاحقة العلماء. في ستينيات القرن الماضي، تجلى موقف الجنوبيين تجاه السعودية من خلال دعمهم لـ«ثورة 26 سبتمبر» بوجه النظام الملكي المدعوم سعودياً. عشرات الآلاف من أبناء الضالع ويافع وردفان وشبوة زحفوا باتجاه مأرب وصنعاء وحجة وصعدة للانخراط في صفوف الثورة والدفاع عنها. مهد انتصار «ثورة 26 سبتمبر» لانطلاق «ثورة 14 أكتوبر» على الاحتلال البريطاني في الجنوب التي ستكرس تموضع اليمن الجنوبي في المعسكر المعادي لمحور الرياض ــ واشنطن. ترجم هذا العداء إلى اشتباكات بين الطرفين امتدت على أكثر من منطقة في محافظتي شبوة وحضرموت. وقد عمدت السعودية في تلك الحقبة إلى تشكيل «جيش الإنقاذ الوطني» من المعارضين الذين فروا إلى أراضيها، بهدف محاربة حكومة الجبهة القومية تحت شعار «إنقاذ البلاد من نفوذ الشيوعية الحمراء».
في الخطاب السياسي، تمسّك نظام عدن بالقطيعة مع ما كان يسميها «أنظمة الرجعية». قطيعة لم تنكسر تماماً على الرغم من التطبيع الدبلوماسي الذي تأخر حتى عام 1976. ظلت أصابع الاتهام موجهة إلى المملكة بالتآمر على حكومة عدن وزرع الجواسيس وبث الدعاية المناهضة لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية. عقب حرب صيف 1994، التزمت الرياض دعم كل من الرئيس السابق علي عبد الله صالح ومشائخ آل الأحمر الذين كانت لهم اليد الطولى في زعزعة أسس الوحدة التي ارتضاها الجنوبيون عام 1991 وفي تهميش محافظات «الجمهورية الديمقراطية» (سابقاً) وهضم حقوقها.
حافظت بعض القيادات على موقف النأي بالنفس عن حرب لم ترَ فيها إلا تأجيراً للبندقية

على مرّ عقدين من الزمن، لم يجد الجنوبيون مؤيداً لقضيتهم سوى بعض المعارضين لنظام صالح، وفي مقدمهم حسين الحوثي الذي لاحقته تهمة «مساندة الانفصال» و«مناصرة الحزب الاشتراكي اليمني» في حرب 94 مذ كان عضواً في البرلمان عام 1993 مروراً بتوليه إدارة منتدى «الشباب المؤمن» عام 1997، وصولاً إلى اغتياله عام 2004. وتواصل خطاب التعاطف تجاه القضية الجنوبية مع تولي عبد الملك الحوثي زعامة حركة «أنصار الله». واظب الأخير على تضمين خطبه عبارات التشديد على ضرورة إيجاد حل عادل لهذه القضية، حتى ما بعد رحيل صالح عن رأس السلطة.

«عاصفة الحزم» وسكرة الآمال

أحداث كثيرة مرّت بعد «ثورة التغيير» بلغت ذروتها في 26 آذار 2015 مع إعلان السعودية حربها على اليمن. عند هذا المفصل، اختلطت الأوراق وانقلب المشهد رأساً على عقب. أعادت «عاصفة الحزم» إحياء آمال البعض بالانفصال، على الرغم من أن الرياض وحلفاءها لم يضعوا أياً من مطالب الجنوبيين على أجنداتهم. استسهلت قيادات «الحراك الجنوبي»، مأخوذةً بسكرة هذه التطورات، الانجرار إلى خطاب التحالف السعودي و«الشرعية» المدعومة من قبله. هنا، ظهرت قيادات أجنحة في الحراك أشبه ما تكون بـ«كومبارس» سياسي وإعلامي مهمته ترداد شعارات غريبة عن أدبياته، من قبيل «دعم الشرعية» و«إنهاء التمرد». الأغرب أن وجوهاً جنوبية تسرعت في الإشادة بالتدخل السعودي بوصفه «إغاثة لشعب الجنوب وانتصاراً لمطالبه». هذا الخطاب المنفصم والمتضعضع رأى إليه النظام السعودي الوقود الأمثل لتسيير المعركة وفقاً لمشروعه الخاص.
كلما كانت أجنحة في «الحراك الجنوبي» تتورط أكثر فأكثر في الانصهار بمنظومة التحالف السعودي، كانت «القضية الجنوبية» تتوارى خلف فجوة كبيرة تعمقها ممارسات الرياض وتصريحات مسؤوليها. بعدما غُيبت هذه القضية كلياً عن مواقف السعوديين وحلفائهم عبر تجاهل فظ للفصائل الحراكية التي قاتلت على الأرض، خرج وزير الخارجية السعودي عادل الجبير ليقول: «إن المملكة السعودية تسعى ليمن آمن ومستقر وموحد». أثار تصريح الجبير ردود فعل غاضبة في أوساط سياسية وإعلامية جنوبية، فيما سخرت أخرى من تلك الردود المبنية على التوهم بأن لدى النظام السعودي مبادرة إيجابية تجاه «قضية الجنوب».
من يتتبع مسار السياسات السعودية منذ سقوط نظام علي عبد الله صالح لا يواجه صعوبة في التقاط محددات نظرة المملكة إلى جارها الجنوبي. فالسعودية تلطت خلف مشروع «الأقاليم الستة» بما يبدد أية استجابة لمطالب الجنوبيين بـ«تصحيح مسار الوحدة». بدت في ذلك متناغمة مع دعوات وجوه حضرمية إلى قيام «دولة حضرموت»، وهو ما يشكل ضربة قاصمة سواء لمشروع «انفصال الجنوب» أو لمشروع «فدرالية من إقليمين شمالي وجنوبي» والذي يتردد أن لدى «أنصار الله» ميلاً إليه.
ما فاقم سخط بعض القوى السياسية الجنوبية مقالات كتّاب سعوديين لا يغردون خارج سرب الخطاب الرسمي للرياض، أبرزها التسويق لفكرة «الخيار الثالث» التي تتجاهل حيثية «الحراك الجنوبي» في أية معادلة تسووية (طرح الفكرة السياسي اليمني مصطفى النعمان، داعياً إلى بلورة تسوية قوامها إعطاء دور وازن للمحايدين).
عملياً، تعزز شعور الأجنحة الحراكية التي قاتلت إلى جانب التحالف السعودي بالتهميش والإقصاء إثر امتناع الخليجيين عن مدّها بأي من عناصر القوة العسكرية والسياسية والإدارية التي بدت حكراً على حكومة هادي وبحاح، ما خلا مشاريع خدمية وتنموية (تسكيتية) تولتها الإمارات خصوصاً في مدينة عدن، تبخرت الوعود بتأهيل «المقاومة الجنوبية» وتسليحها، فضلاً عن تدعيم سلطات المحافظين ومنح المسؤولين الأمنيين هامشاً من النفوذ والقرار.
الأخطر من ذلك كله انفلاش رقعة سيطرة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في مختلف أنحاء المحافظات الجنوبية. تمدد باتت معه الجماعات المتشددة قاب قوسين أو أدنى من إعلان جنوب اليمن بغالبية مناطقه إمارة تكفيرية. إزاء هذه المخاطر، لا تبدو الرياض مستعجلة تغيير أولويات برنامجها المتباين عمّا تتطلع إليه قيادات جنوبية (طالبت هذه القيادات مبكراً بوضع حد للتنظيمات «الجهادية» إلا أنها جوبهت برفض سعودي وفق ما تؤكد مصادر مطلعة)، بل إن السعوديين يواصلون انتهاج السياسة التي أسهمت في نمو الجماعات التكفيرية، سواء من طريق المقاتلة جنباً إلى جنب في غير جبهة، أو عبر تمويل بعض الميليشيات السلفية وتسليحها، كمجموعتي بسام المحضار وهاشم السيد، اللتين حاربتا في منطقة ذوباب على جبهة باب المندب.
آخر الخطوات التي مثلت انكشافاً تاماً للسياسة السعودية، هي تعيين الجنرال علي محسن الأحمر مهندس حروب النظام السابق مع الجنوبيين والحوثيين، وأحد أبرز قادة حرب صيف 1994 (كان قائداً لجبهة عدن آنذاك)، نائباً للقائد الأعلى للقوات المسلحة اليمنية. شكل تعيين «علي كاتيوشا» (كما يسميه الجنوبيون) صدمة كبرى يصعب ابتلاعها بالنسبة إلى الفصائل المقاتلة في «الحراك الجنوبي». بعض نشطاء الحراك علق على المفارقات التي تضمنها قرار تعيين الأحمر بالقول: «إن من كان عدونا اللدود بالأمس أضحى قائدنا الذي نأتمر بأوامره!».

... وعادت الفكرة

اللافت اليوم أنّ ما كان يدور الحديث عنه في الغرف المغلقة خرج إلى العلن. معظم أجنحة «الحراك الجنوبي»، باتت لا تخفي سخطها على التعامل السعودي معها. «ثمة تجاهل سياسي صريح لقضية شعبنا الوطنية من خلال: تمسك التحالف العربي، مسايرةً لقوى الاحتلال المسنودة من جانبه كطرف شرعي في صراع قواه المعروف، بالمبادرة الخليجية ومخرجات حوار الاحتلال... فإن شعب الجنوب قد عبّر عن رفضه لهما بعدد من المليونيات وفي ساحات وميادين النضال اليومي منذ عام 2011». هذا ما جاء في البيان الصادر عن مهرجان إحياء الذكرى الرابعة ليوم «بشائر انتصار الكرامة الجنوبية» والذي حذر من «استخدام قضية شعب الجنوب كورقة للابتزاز السياسي» ومن «تحويل الجنوب إلى ساحة صراع طائفي ومذهبي»، متسائلاً عن «دور التحالف العربي ومسؤوليته السياسية والأخلاقية إزاء سيطرة جماعات التطرف والإرهاب».
موقف يُعَدّ غيضاً من فيض الانتقادات الجنوبية المتصاعدة للتحالف السعودي، وهو يلخص وجهات نظر كثيرين باتوا يرفعون الصوت بوجه الرياض والمرتهنين لمشروعها. يتجلى ذلك بوضوح في تصريحات كوادر عسكرية جنوبية أمست تجاهر باتهاماتها للمملكة وحلفائها (قائد عسكري في اللواء 111 اعتبر «تقاعس التحالف عن تعزيز مقاتليه السبب الرئيس لسقوط مدينة أحور بأيدي القاعدة»، أما قيادة جبهة كرش في محافظة لحج، فعزت تخاذل التحالف عن دعمها إلى رفضها المشاركة في معركة تعز، قائلة: «لسنا مقاولين معكم»). وعبّر كتّاب سياسيون وإعلاميون جنوبيون في مقالات تكثفت في الأسابيع الأخيرة، إضافة إلى منشورات وتعليقات نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي عن غضبهم لما آلت إليه الأوضاع، وطالبوا قيادات الحراك بمراجعة مواقفها.




قيادي جنوبي للإماراتيين: لسنا مقاولي بشر!

ما كان يمكن أن يمنح خطاب الشكر لـ«عاصفة الحزم» مشروعية، تلاشى بعد أسابيع فقط من اندلاع الحرب. انسحب الجيش اليمني ومعه «اللجان الشعبية» من مختلف مناطق الجنوب، وعلى رأسها مدينة عدن، مخلياً الساحة لقوى «الحراك الجنوبي». بدت هذه الأخيرة في حيرة من أمرها، فلا هي قادرة على الإمساك بزمام الأوضاع، ولا التحالف السعودي مستعد لإعطائها الدور المنشود. ارتباك لم يطل حتى انحسم انخراطاً في المنظومة السياسية والعسكرية والإدارية للرئيس عبد ربه منصور هادي، حاول البعض تسويغه بمبرر «التعبير الإيجابي والتعاطي المسؤول مع المتغيرات ومقتضيات المرحلة». أكثر من ذلك، لم تتردد قيادات في الزج بأبناء الحراك في معارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل، خصوصاً في محافظة تعز حيث تشهد الجبهات من حين لآخر مقتل أعداد من المقاتلين الجنوبيين.
في المقابل، حافظت قيادات أخرى على موقف النأي بالنفس عن حرب لم ترَ فيها إلا تأجيراً للبندقية. موقف أسمعته تلك القيادات للجانب الإماراتي في أثناء اجتماع عقد في مدينة أبو ظبي وفق ما تؤكد مصادر جنوبية. المصادر تقول إن ضابطاً إماراتياً ردّ مطالبة الجنوبيين بضمانات لقاء التحالف مع الخليجيين باعتباره أن «الوقت ليس وقت القضية الجنوبية»، (ردّ قيادي جنوبي على الردّ بالقول: لسنا مقاولي بشر ولا تجار حروب... ولن ندفع برجالنا إلى محرقة حرب لإعادة شرعية يمنية حاربناها 20 سنة).