بعدما جهِد الأميركيون في إفشال الزيارة السابقة للوفد السعودي إلى صنعاء، إثْر التماسهم سعياً من قِبَل الرياض لتسوية هندسة شاملة مع «أنصار الله»، بعثت المملكة بوفد ثانٍ إلى العاصمة اليمنية، لكن هذه المرّة بنفَس «أقلّ صدقيّة وجدّية»، أنبأ بوضوح بأن السعوديين أدركوا محدوديّة الهامش الممنوح لهم، وأنهم يحاولون الآن «تقطيع الوقت» تلافياً لتجدّد معركة هي آخر ما يحتاجون إليه بعد قُرابة ثماني سنوات من الحرب. إزاء ذلك، وفي محاولة منها لإحراج المملكة واختبار نواياها الحقيقية، طلبت «أنصار الله» تقديم مسوّدة رسمية للمقترح السعودي حول الحلّ النهائي، وهو ما لا تَتوقّع أن يقابَل بإيجابية، خصوصاً في ظلّ الدفع الأميركي - البريطاني نحو إبقاء الوضع على ما هو عليه من «اللاحرب واللاسلم»، الأمر الذي سيضع الحركة مجدّداً أمام خيار التصعيد، الذي سيتّخذ في حال وقوعه شكلاً مغايراً لِما اختبرته الحرب سابقاً
لا تزال صنعاء تتحضّر لمرحلة عودة التصعيد على الجبهات كافة، على رغم زحمة الموفَدين الذين يزورونها، لا سيّما السعوديون منهم، وكثافة الرسائل والاستيضاحات التي تتلقّاها حول مقترحات وسيناريوات عديدة تُطرح لتمديد الهدنة. لكن إصرار قيادتها على عدم إسقاط احتمال تجدُّد السخونة في الميدان، يعود إلى قناعة لا تفتأ تترسّخ لديها، بأن الثُلاثي الأميركي - البريطاني - السعودي يتعمّد تمرير الوقت بكلام عام عن السلام، بينما لم يُبدِ أيّ استعداد حتى الآن لترجمة الأقوال إلى أفعال، بما ينعكس انفراجةً في الملفّات كافة، وخصوصاً الإنسانية منها. وبحسب معلومات «الأخبار»، فإن زيارة سعودية جديدة إلى صنعاء، هي الثانية خلال الفترة القصيرة الماضية (راجع: وقائع مفاوضات مباشرة بين صنعاء والرياض، «الأخبار»، عدد السبت 12 تشرين الثاني 2022)، سُجّلت قبل أيام، كانت كافية لتظهير «استراتيجية تضييع الوقت» تلك. ووفقاً للمعلومات، فإن وفداً سياسياً سعودياً جديداً التقى في العاصمة اليمنية مسؤولين حكوميين وآخرين من «أنصار الله»، حيث كرّر الحديث المعهود عن الحلّ الشامل، واستعداد الرياض لتسهيل تحقيق عدّة مطالب أساسية لصنعاء، في ما بدا أشبه بـ«استطلاع بالنار» (سياسي هذه المرّة) للوقوف على «جديد موقف أنصار الله من الهدنة وتوسيعها، ومن التسوية النهائية»، كما تقول المصادر لـ«الأخبار».
لكن الاستنتاج الذي خرج به مُتابعو الزيارة الأخيرة، يشير إلى أن السعوديين لا يزالون يعيشون حالة الإنكار ورفْض التسليم لواقع التغيّرات الميدانية والسياسية والاقتصادية الضخمة التي أفرزتْها نتائج قُرابة ثماني سنوات من الحرب، خصوصاً لناحية إفراز معادلات ردع برّية وبحرية وجوّية نوعية. وفي هذا الإطار، تُوضح المصادر نفسها أن الحديث السعودي أتى على مستويَين: الأوّل حول الهدنة وإمكانية تمديدها والشروط الصالحة لذلك؛ والثاني حول «الحلّ النهائي» ومتطلّباته والظروف الملائمة له. إلّا أن الحديث عن الأخير لم يَخرج عن سياق «جسّ النبض»، وبالتالي «لم يكن في نطاق مشروع جَديّ وواضح» وفقاً لتأكيد المصادر، التي تَلفت إلى أن الزيارة الأولى للوفد السعودي الرفيع إلى صنعاء، عمل الطرف الأميركي بجدّ على إفشال مفاعيلها، خصوصاً بعد استشعار واشنطن جنوح الرياض نحو العمل على التسويق لـ«التسوية الشاملة»، على عكْس أولويات إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، الذي يفضّل «حلّاً مرحلياً» للملفّ اليمني، يٌبقيه ورقة صالحة بيده لابتزاز الرياض.
يبدو أن وليّ العهد السعودي اقتنع أخيراً بأنه لن يستطيع تجاوُز الهامش الأميركي في اليمن


والظاهر أن وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، اقتنع، أخيراً، بأنه لن يستطيع تجاوُز الهامش الأميركي. ولذلك، خضع الآن للرؤية الأميركية القائمة على الهدنة المرحلية، خصوصاً وأن العلاقة المتردّية بينه وبين بايدن تدْفع الأخير إلى مواصلة استراتيجيته في اليمن، والتي قد يكون عدم إراحة السعودية هناك أحد عوارضها. وعليه، كان لا بدّ لصنعاء من أن «تستطلع بالنار» هي أيضاً، للوقوف على مدى قدرة السعوديين على الالتزام بما يتحدّثون عنه، من جهة، ومن جهة ثانية، للتأكّد ممّا إذا كان هؤلاء «يعملون على تقطيع الوقت بكلام إيجابي عن السلام، بينما أفعالهم تدلّ على سياق سلبي». وفي هذا السياق، تقول المصادر ذاتها إن صنعاء اقترحت على الجانب السعودي، خلال اللقاء الأخير، «إرسال مسوّدة رسمية لمقترحه حول الحلّ النهائي، لكي نَخرج من مرحلة الكلام إلى مرحلة الأفعال وإثبات النوايا». على أنه من غير المتوقَّع أنْ يتجاوب السعوديون مع الطلب اليمني، لأسباب عدّة أبرزها أنهم سيَظهرون بمظهر المهزوم إنْ هم أقرّوا أخيراً بمطالب «أنصار الله» المتعلّقة بشروط التسوية الدائمة، أو سيعودون إلى المربّع الأول إنْ هم أرسلوا مقترحاً لا يتضمن الحدّ الأدنى من تلك الشروط.
في الأثناء، يواصل الأميركيون والبريطانيون إرسال المزيد من الإشارات إلى أنهم لا يريدون إنهاء الحرب في اليمن، بقدر ما يرغبون في الحفاظ على «الخطوط الحمراء» المتعلّقة بمصالحهم في هذا البلد، وهي النفط وأمن الملاحة البحرية والاقتصاد بشكل عام. وإذ أعلنت وزارة الخارجية الأميركية، نهاية الأسبوع الماضي، بدء مبعوثها الخاص إلى اليمن تيم ليندركينغ، جولة غير محدَّدة المدّة تشمل سلطنة عُمان والسعودية لدعم ما سمّته «جهود السلام المتواصلة»، فقد حاول ليندركينغ ربْط أيّ كلام حول الحلّ بالمصالح الأميركية، داعياً إلى «وقف الاستفزازات التي قد تخاطر بدفع البلاد مرّة أخرى إلى حرب مدمّرة»، تعتقد واشنطن أن «أنصار الله» غير قادرة على أن تصل إلى حدّ المجازفة بشنّها. أمّا بريطانياً، فيمكن اعتبار المواقف الأخيرة التي أطلقها السفير البريطاني لدى اليمن، ريتشارد أوبنهايم، بمثابة «البوصلة» التي تُرشد إلى النوايا الدولية الواضحة حيال إبقاء الوضع على هو عليه، وتجميد العمل على أيّ تسوية شاملة. إذ قال أوبنهايم، في حديث إلى «الشرق الأوسط» السعودية، إن «المملكة المتحدة كانت واضحة جدّاً في أننا ندعم رشاد العليمي، رئيس مجلس القيادة الرئاسي، وبقيّة أعضاء المجلس. وأعتقد أن إنشاءه يجمع مختلف الفرقاء السياسيين اليمنيين باستثناء الحوثيين»، آملاً في أن يشارك «أنصار الله» فيه. الاستخفاف الواضح في حديث السفير البريطاني، لم يقف عند نكرانه تحوّلات موازين القوى الداخلية والخارجية، بل وصل إلى حدّ التلميح إلى تقسيم اليمن من بوّابة الجنوب، حيث قال: «بالنسبة إلى شعب اليمن الآن، عندما أتحدّث إلى اليمنيين، فإن تركيزهم ينبغي أن ينصبّ ليس على عدد البُلدان التي ستكون لديهم، بل هل لديّ طعام لعائلتي؟ هل لديّ الطاقة للبقاء على قيد الحياة؟ هل أطفالي في المدرسة؟ هل لدينا رعاية صحية؟».
محاولات واشنطن ولندن القفز فوق التغييرات الكثيرة والكبيرة التي تمكّنت صنعاء من فرْضها على الخريطة اليمنية، وإلغاء مفاعيل هذه التغييرات عبر مسار سياسي أو تفاوضي يفضي إلى حلّ مرحلي أو نهائي على الطريقة الأميركية - البريطانية، يعني أن فُرص تحقيق تقدّم من خلال مفاوضات تجديد الهدنة التي انتهت في الثاني من تشرين الأول الماضي، ضئيلة للغاية، ولا تكفي لإنعاشها محاولات الرياض تعبئة الفراغ بزيارات واقتراحات «بعيدة من الصدقيّة والجدّية» وفق ما تراها صنعاء. أمام هذا الواقع، تجد الأخيرة نفسها إزاء مروحة خيارات واسعة تبدأ من داخل اليمن، وتمتدّ نحو البحر الأحمر وباب المندب وبحر العرب، مروراً بالعمقَين السعودي والإماراتي؛ ولكلّ منها توقيته وظروفه وأسبابه الموجبة، إلّا أنها جميعها تأتي في إطار «بعثرة الخطوط الحمراء» المتعلّقة بمصالح «التحالف» السعودي - الإماراتي ورُعاته الغربيين.