أكثرَ مسؤولون عسكريون أميركيون، في الآونة الأخيرة، من الإعلان عن خططٍ لحماية منطقة الخليج والبحرَين الأحمر والعربي ومضيق باب المندب. فقد كشف قائد القيادة المركزية الأميركية، الجنرال مايكل كوريلا، أن قوّة مخصّصة للأنظمة غير المأهولة في الخليج، ستَنشر أكثر من 100 سفينة مسيّرة في مياه المنطقة الاستراتيجية بحلول العام المقبل. وسبق هذا الكشْف، إعلان قائد الأسطول الخامس الأميركي، براد كوبر، عن المبادرات التي تقودها البحرية الأميركية في الشرق الأوسط، بما في ذلك إنشاء فريق عمل جديد، ودمج الأنظمة الذاتية التسيير والذكاء الاصطناعي في عمليات الأسطول، والذي تصل حدود عمليّاته إلى قناة السويس. ويقول القادة العسكريون الأميركيون إن أنشطتهم البحرية تساعد في تعزيز الأمن البحري، فيما يساهم بناء هياكل أمنية للأمن البحري في مهمّة الردع، ويشكّل عامل طمأنة في مضيقَي هرمز وباب المندب. ويرى هؤلاء أن المبادرة تمثّل خطوة أولى ملموسة على طريق استعادة الثقة بين واشنطن ودول الخليج، بعدما اهتزّت على خلفية التردّد الأميركي في مواجهة إيران خصوصاً، ومحور المقاومة بصورة عامّة.غير أن الجانب الأميركي المعني بمصالحه قبل أيّ شيء، تتجاذبه وجهتا نظر تعبّران عن رأيَين مختلفَين حول التدخّل المباشر: واحدة داخليّة ترفض إقحام البلاد في حروب جديدة، والأخرى خارجية تقول إن واشنطن معنيّة بحماية مصالحها الحيوية وحلفائها التقليديين في المنطقة. وأوصل النقاش الداخلي حول هذه النقطة إلى أن تسلك القوات الأميركية طريقاً ثالثاً من خلال تعزيز العنصر المادي - التقني، ليحلّ محلّ العنصر البشري، فوقع الخيار على الروبوتات البحرية المسيّرة باعتبارها الرهان المتاح والمعقول لتلافي وقوع خسائر في صفوف الجنود الأميركيين. وجاء الإعلان عن المسيّرات البحرية، كما الكشف عن وجود غواصة نووية في بحر العرب، ليعزّز الحضور الأميركي، ويبعث برسائل في أكثر من اتجاه. فبحسب كوريلا، ستُنشر، خلال العام المقبل، «القوّة 59» والتي تضمّ أكثر من 100 سفينة غير مأهولة فوق سطح البحر وفي أعماقه، تعمل وتتواصل في ما بينها. وقد تمّ إطلاق هذا الأسطول، في أيلول 2021، في البحرين، مقرّ الأسطول الخامس، لينضمّ إلى عدّة فرق أخرى، تعمل على دمج الأنظمة غير المأهولة والذكاء الاصطناعي في عمليات الشرق الأوسط بعد سلسلة من هجمات الطائرات من دون طيّار ضدّ السفن، اتُّهمت إيران بالوقوف وراءها.
ويرى مراقبون أن الخطّة الأميركية بالتدخّل غير المباشر قاصرة عن الإجابة عن الجدوى العسكرية الفعليّة. ويطرح هؤلاء تساؤلات عمّا إذا كانت بالفعل قادرة على رفع التهديد والتحدّيات التي تواجهها واشنطن وحلفاؤها في المنطقة. لكن كوريلا لم يكن، في «حوار المنامة» السنوي الذي عُقد أخيراً، حاسماً في الإجابة عن هذه الأسئلة، بل وضع التكتيكات الأميركية في إطار التجريب، بقوله إن الولايات المتحدة «تبني برنامجاً تجريبيّاً هنا في الشرق الأوسط للتغلّب مع شركائنا على الطائرات من دون طيار»، معتبراً أنه «مع تقدُّم تكنولوجيا الطائرات من دون طيار، فقد يكون (تطوير) أعدائنا للطائرات المسيّرة أكبر تهديد تكنولوجي للأمن الإقليمي».
يحاول الجانب الأميركي استغلال «استراتيجية» الروبوتات للضغط على «أنصار الله»


وشكّل التراجع الأميركي، والانصراف إلى مناطق أكثر حيوية، تحدّياً مركزيّاً أثار حفيظة السعودية، ودفَعها إلى التمرّد على الولايات المتحدة وعصيان أوامرها، وخصوصاً من خلال خفض صادرات النفط بمقدار مليونَي برميل يومياً لرفع الأسعار. ويعطي شكل التدخّل الأميركي الراهن إشارة واضحة جدّاً لا تختلف عن المقاربة السابقة التي باءت بالفشل ولم تؤدِّ إلى تحقيق النتيجة المرجوّة، فيما لا يُرجَّح حدوث تغييرات في الدور الأميركي، شكلاً ومضموناً، على رغم أن تهديدات كثيرة تعترض «استراتيجية الروبوتات»، إذ تواجه اعتراضَين مهمَّين: الأوّل من الخصوم، والثاني من الأتباع:
- يتمثّل الأوّل بالجانب الإيراني، وهو الخصم الذي يَنظر إلى وجود «استراتيجية الروبوتات» على أنها تشكّل خطراً على مصالحه في المياه الإقليمية والبحار القريبة، ويرفض أيّ عمل عسكري يؤدّي إلى تغيير الوضع العسكري والأمني القائم، الذي حكم المنطقة خلال العامَين الأخيرَين، أي منذ تسلّم الديموقراطيين البيت الأبيض. وهذا ما أكده قائد القوات البحرية في الجيش الإيراني، العميد شهرام إيراني، ردّاً على خطة «القوّة 59»، بالقول: «سنوقف أيّ قوارب أميركية مسيّرة لأنها تمثّل خطراً على الملاحة البحرية وناقلات النفط». وسبق للجانب الإيراني أن استولى على العديد من الروبوتات التابعة للبحرية الأميركية في الخليج والبحر الأحمر، أُعيدت، بعد تسويات، عارية من التقنيات التي كانت مزوّدة بها، وهو ما يطرح تساؤلات عمّا إذا كانت طهران ستُقدِم، في المرّات المقبلة، على الاستيلاء على تلك الوسائل الأميركية الحديثة من دون ردّ، الأمر الذي يؤدّي إلى إجهاض الخطوة الأميركية في بداياتها.
- يتمثّل الثاني بالأتباع، أي دول الخليج - ولا سيما السعودية والإمارات - إذ تَرى أن خطوة كهذه من شأنها تعزيز مخاوفها، فضلاً عن أنها لن تؤدّي إلى طمأنتها. فالجانب الأميركي يقول لحلفائه إن «تدخلي مسقوف»، وحدوده تقتصر على إلحاق الضرر بالخصوم. ويُفهم من التطوّرات الأخيرة أن الأميركيين يريدون التدخّل في المنطقة من أجل إحداث تغييرات ميدانية من دون مخاطرة. وهو ما لا يرقى بالحدّ الأدنى إلى تحقيق المصلحة في تطمين الأتباع الذين يطالبون بالتدخّل المباشر والجدّي والفاعل.
في الجانب اليمني، تَرى الولايات المتحدة أن مصالحها تتأثّر بما يجري هناك، وأن خروج هذا البلد من دائرة نفوذها يهدّد أمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية، وخاصة في ما يتعلّق بالملاحة البحرية وحماية الممرّات البحرية التجارية، والمقصود هنا تحديداً باب المندب الذي يُعدّ المدخل الجنوبي للبحر الأحمر؛ إذ تُوليه واشنطن أهمية فائقة، وتَعدّ «حمايته» من أكبر أهدافها في الإقليم، سعياً لمنْع أيّ قوة دولية منافِسة كما الصين وروسيا، أو إقليمية خصْمة كما إيران، من تثبيت موطئ قدم لها فيه، بالإضافة إلى ضمان أمن إسرائيل عبره وكفالة تدفُّق الغاز والنفط منه.
تحاول الولايات المتحدة استغلال «استراتيجية» الروبوتات للضغط على «أنصار الله»، إذ إن من مهام الفرق العاملة في البحر الأحمر، وتلك المستحدَثة، التصدّي لوجود الحركة اليمنية في البحر الأحمر، والحدّ من نشاطاتها البحرية. إلّا أن الجانب اليمني يرى، كما الإيراني، أن الخطط الأميركية المستحدَثة ما هي إلّا استمرار لاستراتيجية واشنطن الكبرى القاضية بعدم التدخّل المباشر في المنطقة. ومن هذه الناحية، لن تضيف «استراتيجية الروبوتات» شيئاً، وخاصة أن صنعاء باتت موجودة بقوّة في الخريطة البحرية، ولديها من القدرات ما يمكّنها من تجاوز التهديدات الأميركية الجديدة.