صنعاء | منذ نقل البنك المركزي من صنعاء إلى عدن في أيلول 2016، بدأت معاناة مئات الآلاف من موظّفي الدولة في المحافظات الخاضغة لسيطرة «أنصار الله»، ومعها بدأت مساعي الأخيرة الشاقّة لإيجاد تسوية لهذا الملفّ الذي كانت له انعكاساته الكارثية على الموظّفين. وعلى رغم أن المبعوثين الأمميين، منذ حقبة إسماعيل ولد الشيخ أحمد، خاضوا محاولات عديدة من أجل إنهاء حجْب الرواتب، إلّا أنه دائماً ما بدا، على طول الخطّ، أن ثمّة إرادة سياسية لإبقاء هذه الورقة كأداة ضغط في وجْه صنعاء، وهو ما لا يَظهر أنه تَبدّل حالياً، على رغم بروز تحوّل أميركي، وَلّد دفْعاً في اتّجاه معالجة تلك المعضلة
لم تتوقّف مطالَبات قيادة صنعاء بحلّ ملفّ المرتّبات، منذ تعطيل البنك المركزي اليمني في 19 أيلول 2016، والاستحواذ على 400 مليار ريال كانت مخصّصة لتغطية أجور نحو 750 ألفاً من موظّفي الدولة في مناطق سيطرة حكومة «الإنقاذ». إلّا أن كلّ تلك المطالَبات قُوبلت برفض حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي، على رغم التزام الأخيرة أمام الأمم المتحدة، في أعقاب نقلها «المركزي»، بصرْف جميع المرتّبات من دون استثناء. وعلى المنوال نفسه، رفض «المجلس الرئاسي» المشكّل حديثاً في الرياض، التعاطي «الإيجابي» مع هذا الملفّ، ليبْقى الأخير كورقة ضغط وابتزاز، كما تقول صنعاء.
بدايةً، اتّخذت حكومة هادي من افتقارها قاعدة بيانات تتضمّن أسماء الموظفين سبباً لتأخير إيجاد حلّ لهذه المعضلة لشهرَين، وهو ما دفع صنعاء إلى تسليم نسخة من هذه القاعدة للأمم المتحدة. وفي أعقاب ذلك، حذّر المبعوث الأممي في حينه، إسماعيل ولد الشيخ أحمد، خلال لقاء جَمعه بهادي في الرياض أواخر تشرين الأول 2016، من تداعيات حرمان الموظفين من مصادر دخْلهم الأساسي، وحثّ على الالتزام بصرف مرتّباتهم. وفي 12 كانون الثاني 2017، عادت محاولات ولد الشيخ أحمد لإحداث اختراق في هذا الملفّ، إلّا أنه، وفي أعقاب جولة قام بها في الرياض التقى خلالها سفراء «الرباعية الدولية» وعقَد عدّة لقاءات مع مسؤولين سعوديين، اصطدم بشروط جديدة مِن مِثل تسليم حكومة الإنقاذ مدينة الحديدة وميناءها للسلطة الموالية للتحالف السعودي - الإماراتي. وعلى إثْر فشل كلّ تلك الجهود، تبنّى المبعوث الأممي السابق ما أُطلق عليه «خارطة طريق لحلّ الأزمة اليمنية»، طالب فيها بتسليم الحديدة لمجلس حُكم مستقل لا ينتمي إلى أيّ من أطراف النزاع، وكذلك تحييد البنك المركزي وفتْح فرع له في المدينة، وتوريد إيرادات الدولة كاملة إليه، بما فيها عائدات النفط والغاز، على أن يضْمن «المجتمع الدولي» تغطية العجز في ميزانية المرتّبات، وتوزيعها على مختلف المحافظات وفقاً لكشوفات عام 2014.
فشِل جميع المبعوثين الأمميين في إيجاد حلّ لمعضلة الرواتب


لكن ولاية ولد الشيخ أحمد انتهت من دون أيّ تقدّم في ملفّ المرتّبات، ليصعد بدلاً منه مارتن غريفيث في 16 شباط 2018. ولم يخلُ لقاء بين غريفيث وحكومة صنعاء ووفدها المفاوض من التباحث في هذا الملفّ، الذي شكّل عنواناً رئيساً في مشاورات استكهولم التي جرت في كانون الأول 2018 برعاية أممية. وعلى رغم أن الشقّ الاقتصادي في الاتفاق الذي نتج من تلك المشاورات، ألْزم صنعاء بإيداع جميع إيرادات موانئ الحديدة والصليف ورأس عيسى في حساب في البنك المركزي في الحديدة، للمساهمة في دفع مرتّبات الموظفين، وحَكم على الطرف الموالي لـ«التحالف» بسدّ العجز في ذلك الحساب من عائدات النفط والغاز، إلا أن الأخير دائماً ما تَهرّب، خلال جولات حوار تكميلية منذ مطلع عام 2019، من التزامه، وهو ما انسحب أيضاً على مناقشات عمّان مطلع أيار من العام نفسه، والتي لم تصل إلى أيّ نتائج بسبب مطالَبة الحكومة الموالية لـ«التحالف» بعدم شمْل جميع الموظفين بالصرف.
مع ذلك، بادرت صنعاء إلى فتْح حساب خاص بالمرتّبات في فرع «المركزي» في الحديدة، وبدأت تحويل عائدات السفن إليه بعدما وُضع تحت إشراف مكتب الأمم المتحدة في العاصمة. إلّا أن الحكومة الموالية لـ«التحالف» رفضت سداد العجز في الحساب، وآثرت بدلاً من هذا وضْع يدها عليها واستخدامه لصالح شريحة محدّدة من موظّفي المحافظة المدنيين. ومع تفشّي جائحة «كوفيد 19»، خلال النصف الأوّل من عام 2020، أعلن غريفيث ما أُطلق عليه «الإعلان المشترك»، الذي استبعد تحييد الملفّ الاقتصادي، وربط معالجته بوقف شامل لإطلاق النار والانتقال إلى مفاوضات سياسية على نطاق أوسع، وهو ما منح، بشكل آخر، دفعة لمساعي الاستثمار السياسي في هذا الملفّ، واستخدامه كسلاح في تحقيق مكاسب.
في الوقت الحالي، أخفقت مساعي المبعوث الأممي، هانس غروندبرغ، هي الأخرى، في إيجاد حلّ لهذه المعضلة، وهو ما تعزوه قيادة صنعاء إلى رغبة «الطرف الآخر» في صرف المرتّبات وفق رؤيته، ورفْضه ربْطها بمصادر تمويل مستقرّة كالنفط والغاز، فضلاً عن اشتراطه تولّي جهة تابعة له عملية الصرف من إيرادات ميناء الحديدة، بدلاً من أن تكون الأمم المتحدة قيّمة على هذه العملية. يُضاف إلى ما تَقدّم أن الحكومة الموالية لـ«التحالف» استبعدت شريحة كبيرة من الموظفين من لائحة المستفيدين، وحاولت فرْض عملتها كوسيلة للدفْع، علماً أن هذه العملة تقلّ قيمتها بنسبة 52% عن تلك المعتمَدة في صنعاء، وهو ما يثير مخاوف الأخيرة من أن يتسبّب هذا الإجراء بانهيار في مناطقها. في المقابل، تتمسّك «أنصار الله» بضرورة دفْع المعاشات لجميع الموظّفين من دون استثناء، وذلك عبر آلية شفّافة تخضع لإشراف المنظّمة، وتضْمن استمرارية الصرف في أيّ حال من الأحوال.