ليس إعلانا الرياض وصنعاء الأخيران، عن هدنة ستسري في اليمن خلال شهر رمضان، إلّا جزءاً من اتفاق كان جرى التوصّل إليه بوساطة الأمم المتحدة، أرادت السعودية استغلاله في الترويج لنفسها كـ"داعية سلام"، قبل أن تُبطل "أنصار الله" حساباتها، بخطّة عسكرية - سياسية انتهت إلى إعطاء مهلة ثلاثة أيّام لوقف العمليات العسكرية. وعلى رغم أن الإعلان السعودي يبدو، هذه المرّة، مفارِقاً لما سبقه من إعلانات ثَبُتت لاجدّيتها، إلّا أن قيادة صنعاء تظلّ ترهن مصيره بما سيَعقبه من خطوات في المرحلة المقبلة بخصوص القضايا الإنسانية، والتي تفيد معلومات "الأخبار" بأنه جرى الاتفاق بالفعل على سلسلة إجراءات "بناء ثقة" بشأنها، في المشاورات الأخيرة التي رعاها المبعوث الأممي
أفضت المشاورات التي أجراها مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن، هانس غروندبرغ، بين الجانبَين اليمني والسعودي، إلى الاتفاق على هدنة مؤقّتة. وكان غروندبرغ قد اجتمع، في التاسع عشر من الشهر الجاري، مع رئيس وفد صنعاء التفاوضي، محمد عبد السلام، في العاصمة العُمانية مسقط. وقد سُرّبت حينها معطيات عن تقدّم في المفاوضات بين «أنصار الله» والرياض، أفضى إلى الاتفاق على هدنة في شهر رمضان بإشراف ومتابعة أممية، بالتزامن مع حديث عن أن النقاشات حقّقت توافقاً حول عدّة ملفات، أبرزها: تبادل الأسرى، وفتح ميناء الحديدة ومطار صنعاء، إلى جانب آلية صرف المرتّبات. ولم يقتصر النقاش على ذلك، بل تعدّاه إلى استطلاع رؤية «أنصار الله» للحلّ النهائي للصراع. على أن رأي الحركة و«حكومة الإنقاذ» معلَن بهذا الشأن، وهو أن أيّ تسوية سياسية ستكون ممكنة مع الجانب السعودي بعد الاتفاق على رفع الحصار ودفع التعويضات وإعادة الإعمار وانسحاب القوات الأجنبية من اليمن. من هنا، حدّد الاتفاق غير المعلَن مجموعة من «إجراءات بناء الثقة» تمهيداً للدخول في مشاورات الحلّ الشامل.
ما حصل هو أن بدل أن يُعلن غروندبرغ الهدنة بنفسه، أعلنت السعودية، عبر أمانة "مجلس التعاون الخليجي" عن المشاورات اليمنية ــــ اليمنية في الرياض، وحدّدت الـ 29 من آذار موعداً لها. وأشارت التقديرات، حينها، إلى أن الأمين العام للمجلس سيعلن عن الهدنة في الجلسة الافتتاحية للمشاورات، في محاولة لتوظيف الاتفاق من قِبَل السعودية، في الترويج لنفسها كساعية في الحلّ السلمي. من هنا، عمدت قيادة صنعاء إلى رسم خطّة عسكرية وسياسية مُقابِِلة. ففي الأولى، وضعت من خلال «عمليات كسر الحصار» سقفاً عسكرياً مرتفعاً غير معتاد، مُدرِجةً على القائمة أهدافاً في الداخل السعودي لم تكن تُستهدف في السابق، مثل محطات الكهرباء ومحطات تحلية المياه وتكريرها، الأمر الذي يشكّل خطراً على أنحاء المملكة كافّة، فضلاً عن استهداف المنشآت النفطية. كما وجّهت رسالة إلى كلّ من واشنطن والرياض بقدرتها على اختراق الدفاعات الجوية المخصّصة لحماية تلك المنشآت، متى أرادت ذلك. سياسياً، استبقت القيادة السياسية في صنعاء إعلان "التعاون الخليجي" للهدنة، عبر كلمة لرئيس "المجلس السياسي الأعلى"، مهدي المشاط، أعلن فيها «تعليق الضربات الصاروخية وضربات الطيران المسيّر والأعمال العسكرية كافّةً في اتجاه السعودية، برّاً وبحراً وجوّاً، بشكلٍ أحاديّ، لمدة 3 أيام»، وأكّد «استعداد صنعاء لتحويل هذا الإعلان إلى التزامٍ نهائيٍّ وثابتٍ، إذا التزمت السعودية بإنهاء الحصار ووقف غاراتها على اليمن، بصورة نهائيّة»، موضحاً أن «تعليق العمليات الهجومية لمدّة 3 أيام يشمل جبهة مأرب». وسبقت إعلانَ المشاط تغريدةٌ لرئيس لجنة الأسرى في صنعاء، عبد القادر المرتضى، أكد فيها قرب إتمام عملية تبادل مع «التحالف»، تتضمّن الإفراج عن شقيق الرئيس المنتهية ولايته عبد ربه منصور هادي، إضافة إلى أسرى سعوديين وسودانيين، في خطوة وُضعت في إطار إجراءات «بناء الثقة» بين الجانبين. وكان من المقرّر أن تتسلّم صنعاء، الثلاثاء الماضي، كشوفات من قِبَل حكومة هادي، إلا أن الأمم المتحدة أبلغتها أن «الشرعية» غير جاهزة بعد، وأن الكشوفات ستسلّم بعد أسبوع من الآن.
يبدو إعلان الهدنة الأخيرة مختلفاً عن إعلانات الهدن الكثيرة السابقة من قِبَل «التحالف»


ويرى مراقبون أن إعلان الهدنة من الجانب اليمني مناورة سياسية ذكية، استطاعت صنعاء بواسطتها فضح التواطؤ الأممي مع الجانب السعودي، وكشْف خطة الرياض القاضية بالالتفاف على المطالب اليمنية المشروعة. ولذا، فقد بدا الإرباك واضحاً على "التعاون الخليجي"، ما دفعه إلى تأخير الجلسة الافتتاحية للمشاورات اليمنية ليوم واحد، قبل أن تعلن قيادة «التحالف» أنه «استجابة للدعوة المقدّمة من الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي بطلب وقف العمليات العسكرية، تزامناً مع انطلاق المشاورات اليمنية ــــ اليمنية، يعلن التحالف وقف العمليات العسكرية ابتداءً من السادسة صباح (يوم أمس) الأربعاء».
ويمكن القول إن إعلان الهدنة الأخيرة مختلف عن إعلانات الهدن الكثيرة السابقة من قِبَل «التحالف» (حوالي 7 إعلانات هدن منذ أيار 2015 لم يُكتب النجاح لأيّ منها)؛ إذ إنه يفتح هذه المرّة الباب على احتمال الانتقال إلى خطوات متقدّمة لاحقة، بحديث الناطق باسم "التحالف"، تركي المالكي، عن إمكانية تحقيق مطلب رفع الحصار، من خلال قوله إن "وقف العمليات العسكرية يهدف إلى خلق بيئة إيجابية خلال شهر رمضان لصناعة السلام وتحقيق الأمن والاستقرار في اليمن". من هنا، تنتظر صنعاء الخطوات المصاحبة لوقف العمليات العسكرية، حتى تبنِي على الشيء مقتضاه، وفي حال استجابة الرياض لمطالبها، فإن الهدنة ستُمدّد تلقائياً شهراً آخر، تمهيداً لمشاورات الحلّ النهائي والشامل. وبخلاف ذلك، فإن الهدنة، ما لم تشمل القضايا الإنسانية، سيجري التعاطي معها على أنها غير موجودة، على اعتبار أن تداعيات الحصار الاقتصادي لا تقلّ إيذاءً عن العدوان العسكري.