مرّة جديدة، تضرب «أنصار الله» في العمقَين الإماراتي والسعودي، في ما يبدو أنه إصرار على تكريس قواعد اشتباك جديدة في مواجهة العدوان. وبينما تُبدي صنعاء استعدادها لتوسيع دائرة استهدافها للعمق الإماراتي خصوصاً، تبدو أبو ظبي كَمَن علق في الوحول اليمنية؛ فلا هي قادرة على التراجُع عن إعادة تفعيل دورها في اليمن بضغط أميركي، ولا باستطاعتها مواصلة هذا الدور خشية تكريسها كهدف دائم للصواريخ الباليستية والمسيّرات اليمنية. وفي انتظار المخرج من ذلك، تُكثّف رسائلها «التراجعية» إلى «أنصار الله» وحلفائها، من دون أن تقرنها بخطوات على الأرض، وهو ما يجعلها غير ذات صلة بالنسبة إلى صنعاء
استَهدفت القوّة الصاروخية وسلاح الجو المسيَّر التابعان لصنعاء، أمس، قاعدة الظفرة الجوّية وأهدافاً حسّاسة أخرى في أبو ظبي، بصواريخ «ذو الفقار» الباليستية، فضلاً عن مواقع حيوية وهامّة في دبي بطائرات مسيّرة من نوع «صماد 3»، بحسب المتحدث باسم القوات المسلّحة اليمنية، العميد يحيى سريع، الذي أعلن أيضاً ضرْب عدد من القواعد العسكرية في العمق السعودي في منطقة شرورة ومناطق أخرى بطائرات مسيّرة من نوع «صماد 1» و«قاصف 2k»، ومواقع حيوية وحسّاسة في جيزان وعسير بصواريخ باليستية. وأكدت صنعاء، على لسان سريع، جاهزيّتها لـ«توسيع عملياتها خلال المرحلة المقبلة ومواجهة التصعيد بالتصعيد»، مجدّدة «نصحها للشركات الأجنبية والمستثمرين في دويلة الإمارات بمغادرتها كونها أصبحت دولة غير آمنة». كما أكد سريع أن «الإمارات مُعرَّضة للاستهداف بشكل مستمر طالما استمرت في عدوانها وحصارها للشعب اليمني».
كرّست عملية «إعصار اليمن» الثانية قدرة الاستراتيجية الجديدة لحركة «أنصار الله» باستهداف العمق الإماراتي، على الاستمرار، الذي من شأنه أن يشكّل مصدر إقلاق بالنسبة لواشنطن وتل أبيب فضلاً عن أبو ظبي، كونه يُفقد الإمارات عامل الأمان، مع ما يجرّه ذلك من تداعيات أمنية وسياسية واقتصادية وتجارية هامّة. في الفترة الأخيرة، قرأت الإمارات الوضع في اليمن بشكل خاطئ، وهو ما دفعها إلى تحريك ميليشياتها في محافظة شبوة. هذه هي خلاصة الموقف في صنعاء، والذي عبّر عنه رئيس وفدها المفاوض، محمد عبد السلام، في تصريحات إعلامية أعقبت عملية «إعصار اليمن 2». أرادت أبو ظبي من خطواتها «الخاطئة» تلك، كسْر الطوق عن مأرب وحماية المدينة من السقوط، وهو ما يمثّل أيضاً هدفاً أميركياً مُعلناً، سعت الإمارات لتحقيقه عبر الميليشيات المدعومة منها، من خلال لعب دور «القوات البرّية» لواشنطن، التي لا ينقصها في المعركة سوى العديد البرّي.
في عمق المشهد تقف إسرائيل كذلك، ما يبرّر الاستماتة الأميركية في الحفاظ على «ورقة اليمن» من بوابة مأرب. ثمّة قراءة للمشهد المستجدّ في هذا البلد منذ إعادة أبو ظبي تفعيل أوراقها انطلاقاً من شبوة، تقول بأن الإمارات ترعى 3 مصالح إسرائيلية استراتيجية في اليمن:
- الأولى عبر التمويل السخي، خصوصاً مع الضغوط الاقتصادية والاجتماعية الهائلة التي تتعرّض لها الولايات المتحدة الأميركية، ما يؤثر في التقديمات النوعية التي توفّرها لتل أبيب، وتستعيض عنها الأخيرة بأبو ظبي. ومن هنا، فإن تعرّض الإمارات لضربات متتالية في عمقها الحيوي والحسّاس يُدخلها في دوامة من الاستنزاف للموارد المالية المأمولة بالنسبة لإسرائيل.
يمكن اعتبار إسرائيل أحد أكبر المتضرّرين من توالي الضربات اليمنية على الإمارات


- الثاني، عبر شركة «موانئ دبي العالمية»، تشكّل الإمارات مظلّة للإطلالة والملاحة الإسرائيليتَين في البحر الأحمر وباتجاه الهند والصين.
- الثالث، عبر الانخراط المباشر في الميدان، تؤمّن الإمارات، من خلال علاقاتها وقدراتها ومواردها، خزاناً بشرياً سلفياً جنوبياً لرفد الجبهات، وخصوصاً في الجنوب ومأرب، وهذا ما يُعتبر بمثابة «القوة البرية الأميركية» غير المعلنة في اليمن.
من هذه الزاوية، يمكن اعتبار إسرائيل أحد أكبر المتضرّرين من توالي الضربات اليمنية على الإمارات، لأن عجز الأخيرة عن أداء المهام الموكلة إليها في اليمن، سيؤثر مالياً وميدانياً واستراتيجياً في خططها المستقبلية التوسّعية. ومن هذه الزاوية أيضاً، يمكن فهم الإصرار اليمني على اعتبار الإمارات «دويلة غير آمنة». إلا أن هذا يفتح باب التساؤلات عن «الحِكمة» في أن يضع الحكّام الإماراتيون بلادهم ومواردها في مهبّ «المغامرات الأميركية - الإسرائيلية» غير المضمونة، خصوصاً في اليمن. غير أن فهم الدور الوظيفي لهذه الدولة يسهّل الإجابة. يقول السعوديون (الذين يعبّرون في المناسبة عن ارتياحهم للتورّط الإماراتي في المستجدّ في اليمن، ويمكن ملاحظة ذلك من أداء ماكينتهم الإعلامية) إنه لا يمكن لحكّام الإمارات أن يتقاسموا جبنة الانتصارات معهم في اليمن، ومن ثمّ ينسحبون من المشهد في موسم حصاد ثمار الردّ اليمني. هذا بالإضافة إلى الدور الوظيفي لأبو ظبي، والذي شكّل عامل ضغط كبيراً على الإماراتيين دفَعهم إلى التورّط في الوحول اليمنية من جديد، بعدما كانوا قد أعلنوا انسحابهم منها.
الآن، لا تتوقف الرسائل الإماراتية إلى صنعاء منذ «إعصار اليمن» الأولى الأسبوع الماضي. وهي ستتكثّف بعد «إعصار اليمن» الثانية بالأمس. إلا أنه لا يوجد في صنعاء من يصدّق أياً من رسائل التنصّل الإماراتية تلك. فقد دأبت أبو ظبي على خطوات كهذه منذ حتى ما قبل التوغّل في عسيلان وبيحان وعين. وبمجرّد أن اتُّخذ القرار بإعادة تفعيل الإمارات أوراقها في اليمن، حرص حكّامها على «تطمين» صنعاء إلى نواياهم «السليمة»، وتدرَّج فحوى الرسائل حتى وصل إلى تحميل الرياض وواشنطن مسؤولية القرارات المتعلّقة بشبوة أولاً، وتالياً بالمجازر التي أعقبت «إعصار اليمن» الأولى. إلا أنه على الأرض، لا تَفصل صنعاء أيّاً من أطراف ثلاثي العدوان السعودي - الإماراتي - الأميركي عن المسؤولية، وهي تسجّل تكرار عدم اقتران أفعال أبو ظبي بأقوالها. ومن هنا، تأتي عمليات الردّ في العمقَين السعودي والإماراتي، ويأتي الحديث عن استهداف قاعدة الظفرة، التي تقع على بعد حوالي 32 كلم جنوب أبو ظبي، والمشغّلة من قِبَل الطيران الإماراتي، وهي المقرّ الرئيسي للقوات الأميركية في المنطقة، وتُعتبر اليوم واحدة من أكثر قواعد طائرات التجسُّس الأميركية نشاطاً حول العالم، بعد أن كان دورها مقتصراً على إعادة تزويد المقاتلات الأميركية بالوقود.
وانطلاقاً من التطورات الجارية في المنطقة والتي تُعاكس بإيجابيتها حماوة المشهد اليمني، يجد الأميركيون أنفسهم مضطرين للحفاظ على قدر عالٍ من التوتّر في اليمن، من خلال إعادة إشعال الجبهات كافة ربطاً بـ«مصيرية» مأرب والمعركة فيها وعليها. إذ يَعتقد الأميركيون أن خسارة مأرب تعني من ضمن ما تعنيه، خسارة ورقة اليمن المهمّة، والتي يمكن أن تكون عامل جذب لمكاسب معينة على طاولة المفاوضات، انطلاقاً من فيينا وصولاً إلى بغداد.