تُسرّع الولايات المتحدة من وتيرة نشاطها الدبلوماسي على خطّ الأزمة اليمنية، بعدما تبنّى مبعوثها إلى اليمن، تيم ليندركينغ، في الجولة الأخيرة، مطالب النظام السعودي بالكامل. إلا أن صنعاء، التي تدرك عمق المشاركة الأميركية في العدوان واستمراريّتها إلى الآن، لا تَتوقّع تراجُع واشنطن عن السقف العالي الذي رفعه ليندركينع في وجه «أنصار الله»، والذي تعمّدت الأخيرة الإحجام عن الردّ عليه بشكل رسمي، واللجوء، بدلاً من ذلك، إلى وسائل الإعلام، للقول إن المبادرة الأميركية تُمثّل عملية التفاف، ستؤدّي إلى «عودة الحصار بشكل دبلوماسي» وفق «الشروط السعودية»، مع ما يعنيه هذا من «وضع اليمن في مرحلة أخطر ممّا هو عليه الآن». أيضاً، أفهمت صنعاء، كلّ مَن يعنيهم الأمر، أن العمليات العسكرية، سواء ضدّ العمق السعودي أم داخل اليمن، ستستمرّ ما دام العدوان مستمرّاً، وما دامت حقيقة الدعوة الأميركية إلى السلام هي دعوة إلى الاستسلام. ما حدث في الأيام الماضية، بحسب مصادر مطّلعة، هو أن ليندركينغ وُضع، من قِبَل السعوديين، في جوّ إمكان انقلاب الموازين العسكرية لصالح الرياض، تأسيساً على الإيهام بأن هجوم الجيش و»اللجان» على مدينة مأرب متوقّف حالياً أمام صمود قوات هادي، خصوصاً بعدما أدخلت السعودية معدّات عسكرية إضافية إلى الجبهة، وأن قوات هادي نجحت أيضاً في فتح جبهتَي تعز وحجّة، واستطاعت تحقيق إنجازات فيهما. وعلى هذا الأساس، أعلن ليندركينغ عودته إلى واشنطن، في انتظار جواب من حكومة صنعاء. لكن، كما في كلّ مرّة، فشلت الرهانات السعودية، بتحقيق الجيش و»اللجان» اختراقات كبيرة إضافية في خطّ دفاع قوات هادي في مأرب، واستمرار عملياتهما العسكرية وفق الخطّة المرسومة لها (جانب من المعركة حالياً يدور على استمالة الناس، حيث تسعى السعودية إلى وضع السكّان والنازحين وجهاً لوجه مع قوات صنعاء، فيما تنشط الأخيرة في تحييدهم من خلال التواصُل مع ممثّليهم وإرسال التطمينات اللازمة إليهم)، واستعادتهما المبادرة في تعز، وانسحاب السيناريو نفسه على حجّة أيضاً، لتُثبت قوات صنعاء بذلك أنها قادرة على القتال في أكثر من جبهة في وقت واحد.
أمس، تحرَّكت عجلة المساعي الأميركية مجدّداً، بالاتصال الذي أجراه وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، بمبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن، مارتن غريفيث، وأكد فيه، بحسب المتحدّث باسم الخارجية الأميركية نيد برايس، «دعم الولايات المتحدة للوحدة والاستقرار في اليمن بعيداً عن التأثير الخارجي»، و»عدم وجود حلّ عسكري للنزاع هناك»، فيما أشار غريفيث، في تغريدة على «تويتر»، إلى أن «العملية السياسية تتطلّب وقف إطلاق النار على مستوى البلاد، وفتح مطار صنعاء، وتخفيف القيود المفروضة على الموانئ». وسرعان ما جاء ردّ صنعاء على بلينكن، من خلال تصريح لعضو «المجلس السياسي الأعلى»، محمد علي الحوثي، قال فيه «إننا ننتظر الأفعال بسحب العناصر الأميركيين والخبراء من المعركة، وتحييد السلاح الأميركي وسحبه من المواجهة الحالية، وأيضاً إبلاغ البحرية الأميركية بفكّ الحصار، هذا ما ننتظره وما ينسجم مع التصريح الآن».
وبحسب ما كشفته وسائل إعلام موالية لـ»التحالف»، خصوصاً للجانب الإماراتي، فإن الإدارة الأميركية تتّجه نحو تقديم حزمة جديدة من التنازلات لصالح صنعاء، في محاولة لجرّ الأخيرة نحو طاولة المفاوضات، والقبول بمبادرة «الإعلان المشترك» لوقف إطلاق النار الشامل، والذي سبق أن رفضته «أنصار الله». وتعزيزاً لتلك المعلومات، لفت ليندركينغ، أمس، في مقابلة مع شبكة «PBS» التلفزيونية الأميركية، إلى «(أنني) كنت على اتصال مع السعوديين والحكومة اليمنية خلال عطلة نهاية الأسبوع، وأنا متفائل بأننا سنرى بعض التحرُّكات على المدى القريب». والظاهر أن المبعوث الأميركي بات متأكّداً من أن صنعاء ليست حاضرة للتفاوض من دون إطار واضح لوقف إطلاق النار ورفع الحصار. ولذا، فقد أجاب عن سؤال حول إذا ما كانت «أنصار الله» مهتمّة بمبادرته بأن: «هناك طريقاً صعباً، لكن أعتقد أن المناقشات الجارية تشعرنا بأنها مثمرة ويمكن إحراز تقدُّم فيها». وكانت الخطّة الأميركية المُقدَّمة، أخيراً، إلى «أنصار الله»، ركّزت على وقف هجوم مأرب، مقابل بعض الامتيازات المشروطة، مثل فتح مطار صنعاء وميناء الحديدة بإذن سعودي، على أن تقتصر الرحلات الجوية على عدد محدود من عواصم الدول التي تشارك في العدوان. كما طُرحت بنود اقتصادية وإغاثية أخرى من دون أيّ ضمانات، ليتّضح أن إدارة الرئيس الأميركي الجديد، جو بايدن، لا تزال تُراوح في مربّع التعمية والتحايُل.
وُضع ليندركينغ من قِبَل السعوديين في جوّ إمكان انقلاب الموازين العسكرية لصالح الرياض


ووفقاً لمصادر مطّلعة في صنعاء، فإن العواصم الغربية، وعلى رأسها واشنطن، لطالما حاولت وضع قيود على عمليات الجيش و»اللجان»، إلا أن صنعاء لم تُعِر أيّ اهتمام لتلك المحاولات، وتجاوزتها جميعاً. وتوضح المصادر أن آخر المساعي الأميركية تمثّل في رسم خطّ أحمر عند حدود محافظة الجوف (سرعان ما اضمحلّ لاحقاً)، من دون مأرب، على رغم ترابط المحافظتَين جغرافياً. ويعود ذلك، بحسب خبراء، إلى أن الولايات المتحدة كانت، حتى وقت قريب، على اقتناع تامّ بأن الخطط العسكرية لدول «التحالف»، والارتباطات القبلية في مأرب مع السعودية، فضلاً عن علاقات الأخيرة مع التنظيمات الإرهابية، كلّها تُشكّل عائقاً أمام تقدُّم الجيش و»اللجان» في هذه المحافظة، وهو ما جعل جميع مراكز الدراسات والبحوث الأميركية تُجمع على استحالة سقوطها.
ولا تقتصر أهمية مأرب على ما تُمثّله من موقع استراتيجي للسعودية، من شأن سقوطه أن يزيح عن طاولة المفاوضات الوكلاء المحلّيين لـ»التحالف»، ويحصُر التفاوض بين الرياض ومِن خلفها واشنطن من جهة وصنعاء من جهة أخرى، بل إن ثمّة أهمية إضافية متمثّلة في كون مأرب، إلى جانب الجوف، محافظتَين نفطيّتَين، اقتضت الخطّة الأميركية أن يبقى مخزونهما مكتوماً إلى حين تقرُّر الاستفادة منه، فيما يكون غاز محافظة شبوة من نصيب الجانب الفرنسي. وبحسب ما كشفه «ويكيليكس»، فإن وثائق صادرة عن الحكومة الأميركية تؤكّد وجود كمّيات نفطية وغازية كبيرة في محافظات الجوف ومأرب وشبوة. وفي صيف العام 1984، أعلنت شركة «هنت» الأميركية اكتشاف نفط في «قطاع مأرب - الجوف» بكمّيات تجارية، ليتمّ في العام 1986 إنشاء «مصفاة صافر» وتصدير أول شحنة نفط يمني «مأربي» إلى اليابان بحضور جورج بوش (الأب)، الذي كان يومها نائباً للرئيس الأميركي. وبشّر بوش، آنذاك، العالم الصناعي، بوجود بديل من نفط الخليج الملتهب، من جرّاء ما عُرف بـ»حرب الناقلات النفطية» أثناء الحرب العراقية - الإيرانية. إلا أن الولايات المتحدة، وفق ما تكشفه شخصية بارزة في نظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح لـ»الأخبار»، سمحت باستخراج ما يكفي السوق المحلّية اليمنية فقط، فيما اتفقت مع السعودية على إبقاء المخزون كامناً إلى حين تُقرّر هي استخدامه بكمّيات تجارية.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا