ليست محاولات تركيا تعزيز حضورها في اليمن وليدة الظروف الراهنة، بل هي محاولات متقادمة ومرتبطة بسعي أنقرة إلى توسيع رقعة نفوذها في المنطقة. وعلى رغم ما تتداوله راهناً وسائل إعلام المحور المناوئ لتركيا عن قفزة نوعية في تدخّل الأخيرة في الساحة اليمنية، فإنه لا مؤشرات حقيقية على ذلك. وعلى ما يبدو، فإن «اقتحام» الأتراك الساحة الليبية أخيراً هو ما ولّد خشية سعودية ــــ إماراتية ــــ مصرية عبّرت عنها وسائل إعلام تلك البلدان، والتي كثّفت تحذيراتها في خلال الأسابيع الماضية من وجود «خطط تركية للتدخّل العسكري في اليمن».ويتساوق التدخّل التركي في هذا البلد مع التدخّل القطري، مُجلّياً ليس فقط تقاطع مصالح سياسية واقتصادية وعسكرية، وإنما أيضاً توافقات «عقائدية». وتتقاسم كلّ من الدوحة وأنقرة الأدوار في ما بينهما؛ إذ يتركّز عمل الأولى على المستويات المالية والإعلامية واللوجستية، فيما تُعنى الثانية بالجوانب الطبية والتعليمية والاستخبارية والعسكرية.
في المقابل، تحاول الإمارات، على الدوام، الوقوف حائط صدّ بوجه التدخّل التركي، ساعية في ضرب المشروع «الإخواني» متمثّلاً في حزب «التجمّع اليمني للإصلاح». وهو هدف يتقدّم حالياً على ما عداه من أهداف، بما فيها مواجهة حركة «أنصار الله»، التي تتحاشى أبو ظبي التماس المباشر معها في جبهات القتال منذ العام الماضي، فيما لا تتوانى عن فتح جبهات ضدّ وكلاء أصدقائها (السعوديين) وأعدائها (الأتراك والقطريين) على السواء، وخصوصاً في جنوب اليمن، حيث تستعر اليوم المواجهة بين «المجلس الانتقالي» الموالي للإمارات وحزب «الإصلاح».
وتتوجّس أبو ظبي من محاولات أنقرة مزاحمتها في اليمن، كما هي الحال في منطقة القرن الإفريقي وخليج عدن، علماً بأنه بات لتركيا نفوذ كبير في الصومال مثلاً، حيث تمتلك أكبر قاعدة عسكرية خارج أراضيها. وفي أحدث إشارات التنافس هناك، أعلن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، أخيراً، أن مقديشو دعت أنقرة إلى التنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية للصومال. من جهة أخرى، وخلافاً لنظرة سعودية أكثر اعتدالاً إلى «إخوان اليمن»، تضع الإمارات الأخيرين في خانة الأعداء، وتنتهج حيالهم سياسة استئصالية، مُعلّلةً ذلك بفشل المحاولات السابقة لرأب الصدع معهم. أمّا الرياض، وعلى رغم خصومتها مع أنقرة، فإنها تفرّق بين أفرع «الإصلاح» وأجنحته، وهي تجد نفسها مضطرة إلى التعامل مع «فرع الرياض» الذي يقوده محمد عبد الله اليدومي (رئيس الهيئة العليا للحزب) وعبد الوهاب الآنسي (أمينه العام)، انطلاقاً من حاجتها إلى حليف وازن على الساحة اليمنية بعدما فقدت حلفاءها التاريخيين هناك.
في المقابل، تركّز تركيا، منذ ما بعد اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي عام 2018، على عبثية الحرب في اليمن وتكلفتها الإنسانية، مُكثّفة دعواتها إلى وقفها. وفي ذلك استثمارٌ كلامي، مترافق مع آخر عملي، متمثل في الجهود الإنسانية والدبلوماسية، والتي كانت من بينها زيارة نائب وزير الداخلية التركي، إسماعيل جكتلا، لعدن، والتقاؤه رئيس حكومة الرئيس المنتهية ولايته عبد ربه منصور هادي، معين عبد الملك، ووزير داخليته أحمد الميسري المحسوب على أنقرة. وتستضيف تركيا على أراضيها قيادات وكوادر من «الإصلاح»، في مقدّمهم عضو شورى الحزب (سابقاً) توكل كرمان، التي تشهر العداء لكلّ من السعودية والإمارات، وتعتبر وجودهما في اليمن احتلالاً، وتدعو إلى مقاومتهما بشتّى الوسائل بما فيها العسكرية.
هذه الرعاية التركية ــــ القطرية لـ«الإصلاحيين» انتقلت، في خلال الأشهر الأخيرة، إلى طور أكثر تقدّماً، عبر دعم أنشطة عسكرية خارج إطار ما يسمّى «الشرعية». إذ عمل القيادي في «الإصلاح»، حمود سعيد المخلافي، على افتتاح معسكر جديد في محافظة تعز، بعيداً من الهيكل التنظيمي لقوات هادي، فيما تحدّثت تقارير عن إشراف خبراء ومستشارين أتراك على هذا المعسكر، الذي خُصّص لاستقبال آلاف المجنّدين العائدين من الحدّ الجنوبي للسعودية. على أن النشاط التركي ــــ القطري لا يقتصر على تعز، بل يمتدّ إلى المحافظات الشرقية (حضرموت وشبوة والمهرة)، حيث تتقاطع مصالح الدولتين مع مصالح سلطنة عمان، وهو ما يدفع الأطراف الثلاثة إلى تنفيذ مشاريع أمنية وخدماتية مشتركة.