بعد حرب تدمير العراق بذريعة تحرير الكويت عام 1991، اعتبر وزير الدفاع الهندي آنذاك أن السبيل الوحيد لدفاع دول الجنوب عن سيادتها في مواجهة النزعة الإمبراطورية الأميركية هو امتلاك السلاح النووي. فالوظيفة الوحيدة لاتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية من منظور القوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة، هي حرمان دول الجنوب من قدرة الردع التي تُتيحها هذه الأسلحة للحفاظ على موازين القوى المختلّة على الصعيد الدولي، الشرط الرئيس لاستمرار الهيمنة الغربية. لو لم يحصل الاتحاد السوفياتي على السلاح النووي، لَما كانت الولايات المتحدة لتتردد في استخدامه ضده. وقد سمح توازن الرعب الذي نشأ على المستوى الدولي، نتيجةً لهذا التحول الاستراتيجي الكبير، في منع القوة العاتية الأميركية من اللجوء إلى النار النووية ضد الشعوب التي قاومتها في جنوب العالم، كشعب فيتنام مثلاً، على رغم قصفها الإجرامي بأصناف وأنواع من الأسلحة الفتّاكة، كالنابالم والفوسفور الأبيض، لمدنه وقراه.مع نهاية الثنائية القطبية، وما نجم عنها من جموح إمبراطوري أميركي، أصبح تحدي الحفاظ على الاستقلال والسيادة بين أبرز التحديات المطروحة عند الأنظمة والقوى الوطنية في جنوب العالم، خاصة في مناطق الفراغ الإستراتيجي المستباحة، كما كان حال المنطقة العربية منذ تجزئتها وزرع إسرائيل في قلبها. تم تدمير العراق بحجة امتلاكه أسلحة دمار شامل، وتلت ذلك مباشرة بداية الحرب المديدة والمتعددة الأوجه على إيران، عبر التشكيك في سلمية برنامجها النووي واتهامها بالسعي إلى تطوير أسلحة نووية. لم يؤدِّ توقيع اتفاق حول برنامج إيران النووي بينها وبين دول 5+1 إلى انطلاق مسار جدي لتطبيع علاقاتها مع القوى الغربية ببساطة، لأن الأخيرة أدركت أن الأولى لم تتوقف عن تنمية ترسانتها الصاروخية كمّاً ونوعاً، وتمكين حلفائها في الإقليم من ذلك.
رأت القوى الغربية أن تعاظم هذه الترسانة، وتداعياتها الخطيرة على التفوّق العسكري الإسرائيلي، الركيزة الأساسية في منظومة سيطرتها على الإقليم، وهو تهديد استراتيجي ينبغي التصدي له. انسحبت إدارة دونالد ترامب من الاتفاق النووي للضغط على طهران لتعديله عبر ربط أي اتفاق حول برنامجها النووي بذلك الباليستي، لتحجيمه إلى أقصى درجة ممكنة. وقد أظهرت تطوّرات الصراع في المنطقة في العقدين الأخيرين بين المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، وإسرائيل، وكذلك التي في الخليج اليوم، أهمية الترسانة الصاروخية كسلاح رادع، وهي ستعزز اتجاه القوى غير الغربية، الدولتية وغير الدولتية، إلى الاستثمار استراتيجياً في هذا السلاح باعتباره أداة فعّالة ومتاحة، بعكس السلاح النووي الصعب المنال لدول أو حركات قليلة القدرات المالية، من أجل حماية بلدانها من سياسات العدوان والهيمنة الأميركية والغربية.
الضربة النوعية التي وجّهتها حركة «أنصار الله» إلى منشأتي أرامكو في السعودية زادت المخاوف الغربية والإسرائيلية من نتائج تطور قدرات أطراف محور المقاومة في مجالي الطائرات المسيّرة والصواريخ الدقيقة. مَقالة مُهمة نُشرت في «لوموند» لنتالي غيبير، نسبت إلى ضباط وخبراء في مجال الدفاع الإسرائيلي قولهم: إن الضربة شكّلت منعطفاً في مجرى الصراع في الإقليم وإنها فاجأتهم والأميركيين بما كشفت عنه من مستوى تطور تقني وعسكري. وذكرت غيبير أن رون بن يشاي، الصحافي الوثيق الصلة بالجيش الإسرائيلي، أكّد أن نجاح الضربة نجم عن «توفر معلومات عالية الدقة عن الأهداف وتخطيط وسرية تامة قبل وبعد تنفيذها»، متهماً قيادة سلاح الجو الإيراني والحرس الثوري بالإشراف المشترك عليها. وأشار بن يشاي إلى أن أكثر ما يثير قلق الإسرائيليين صواريخ كروز التي استهدفت منشأة ابقيق، وفق زعمه. لكن الأهم في حديثه ما ذكره عن الصواريخ الدقيقة: «خلال حرب لبنان الأخيرة، 80% من صواريخ الأعداء وقعت في الحقول. إذا باتت صواريخهم موجّهة، سيلجؤون إلى شلّ نظام الدفاع المضاد للصواريخ و15% من الضربات العالية الدقة تكفي».
غيبير تضيف أن التمركز الشديد للبنى التحتية الإسرائيلية في مساحة جغرافية ضيّقة وكون 50% من مياه الشفة مصدرها خمس محطات تحلية و28% من كهرباء إسرائيل مصدرها منشأتان هي جميعها وقائع تبرز هشاشة الكيان عند وقوع أيّ حرب في المستقبل. ووفقاً لدراسة أعدّها «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» الأميركي في أيار/مايو الماضي، فإن الطائرات المسيّرة الإيرانية الكبيرة وصواريخ كروز من نوع «سومر» من الممكن أن تجمع بين الدقة والقدرة التدميرية التي تتمتع بها الصواريخ الباليستية الموجّهة، و«هذا الأمر وحده قد يقود إلى الحرب».
صواريخ محور المقاومة، الذي لا يتردد في استخدامها كما أثبتت ضربة أرامكو، هي السبب الرئيس للمعركة التي يخوضها إلى الآن بكفاءة عالية ضد التحالف الأميركي ــــ الإسرائيلي ــــ السعودي. وهذا هو السبب الأول لصعوبة التوصّل إلى تسوية بين الولايات المتحدة وإيران، بعكس ما يعتقده كثيرون. ستترتب على مآلات هذه المعركة تداعيات مهمة على مستقبل الهيمنة الأميركية والغربية. ما الذي سيمنع غداً فنزويلا وبوليفيا، ودولاً أو حركات ثورية أخرى، من امتلاك ترسانة باليستية وتطويرها لردع العدوانية الأميركية؟ إن «دينامية انتشار» الصواريخ الباليستية، وفق التعبير المستخدم في تقارير البنتاغون، سترتفع وتيرتها بلا ريب مع ثبوت القدرة الرادعة لهذه الصواريخ في المواجهة الحالية، ما سيزيد سرعة التراجع للهيمنة الغربية.