فتح اليمنيون، بالأصالة عن أنفسهم وبالنيابة عن سائر مظلومي العالم، وبوصفهم أحد أضلاع المحور المقاوم، بتسديدتهم الدقيقة والصائبة شكلاً ومضموناً، الباب واسعاً على تغيير نوعي في معادلات المنطقة وتوازناتها. وإذا كان هناك من كلام سعودي يُعتدّ به، فهو الكلام الذي اعترف بأن ما بعد الضربة لن يكون كما قبلها. فالضربة الصاعقة التي تَردّد صداها في العالم، وعبّرت عن جسارة اليمنيين وبأسهم، لن تقتصر على الأضرار المادية غير القليلة التي لحقت بالموقع المستهدَف، بل ستصل إلى ما هو أبعد من ذلك. والأبعد هو أرجحية وحتمية فرض جدول أعمال مغاير، عنوانه الأساسي تأكيد مفصلية الخسارات التي أصابت محور الهوان العربي، وعلى رأسه الكيان السعودي، باتجاه إرغامه على الانصياع لمطلب وقف الحرب المجرمة. ومع الانصياع الذي صار واقعاً داهماً، ستتجسّد المخاطر التي ستفرض على المعتدي مواجهة حقائق الهزيمة وأثمانها الباهظة، وهو ما تحاول السعودية حتى اللحظة تأخيره أو إبعاده من خلال المضيّ في لعبة لحس المبرد. فالهزيمة التي باتت حتمية في اليمن، قد تفتح على ما هو أكبر وأخطر من ضمور الدور وفقدان التأثير. إن المعتدي أمام احتمالات كابوسية لا أقلّها المزيد من تشققات البنيان، وربما التسريع في تصدّعه الذي تأخر.منذ اللحظة الأولى للحرب، وربطاً بالسياقات التي قادت إليها وحكمت مساراتها وسمحت بكلّ هذا الإجرام المدعوم أميركياً وغربياً، ظهر أنها أكبر من طاقة «الأمير الصغير» ومن طموحاته في ابتناء حيثية تُقدّمه على أقرانه من الطامعين بالعرش، بل كان واضحاً أن الأمر يتجاوزه ليتصل بما هو أكبر من ذلك بكثير: تثبيت الالتحاق وتجديد عقيدته.
وإذا كان صحيحاً أن الغرّ المتعطّش إلى السلطة والمهووس بها كان معنيّاً بجمع الأوراق وتعزيزها استعداداً لخلافة والده المريض، واستباقاً لمفاجآت التنافس الضاري الذي اشتعل مع تردّي أحوال الملك السابق، وسبق وصول ابن سلمان وتلاه، فإن الهدف الأوضح، وهنا الأساس الحاكم لعملية شغل العرش السعودي، كان مخاطبة السيّد الأميركي ونيل «رضاه»، وهو ما لا يتم إلا بإظهار الاستعداد للامتثال والخضوع التامَّين. غير أن الدافع الأكبر الذي استوجب الحرب وفق الحسابات المتعجلة، كان ملاقاة «المشروع الإسرائيلي» الكبير بعد اليأس من رهانات استجرار الحرب على إيران، واستنكاف الولايات المتحدة عنها، لا لعدم الرغبة فيها، بل بسبب الحسابات الدقيقة، والخشية من خطورة التبعات وامتدادها إلى مجمل المنطقة والعالم.
من دروس الضربة اليمنية الكبيرة يتأكد وبالملموس أن واقع الانفراد والهيمنة الأميركيين يتآكل
الكبيرة يتأكد وبالملموس أن واقع الانفراد والهيمنة الأميركيين يتآكل


ومن دروس الضربة اليمنية الكبيرة، وردّ الفعل الأميركي الخافت عليها (حتى الآن)، يتأكد وبالملموس أن واقع الانفراد والهيمنة الأميركيين يتآكل. فالذي كان ممكناً قبل عقد من الزمن لم يعد كذلك، بل يمكن المجازفة والقول إن التهديد بالقوة، وحتى استخدامها، قد فقد معناه. فلدى قوى المحور المقابل الكثير من أوراق القوة غير المستخدَمة بعد، فضلاً عن المفاجآت التي تنتظر اللحظة المناسبة. إن واشنطن، اليوم، وكما تدلّ الوقائع الكثيرة المتدافعة، قد فقدت الكثير مما كان لها. واللافت أن هذا الفقدان، الذي يرخي بظلاله القاتمة أكثر ما يرخي على مرتزقتها، يحصل بسرعة لافتة. إن الضعف وبداية الأفول هما المعنى الفعلي والحقيقي، ولا معنى آخر للتردد والخشية اللذين باتا سمة «ترامبية» وتالياً أميركية. وبناءً على ما تقدم، فإن المراوحة والاستنكاف عن الفعل، المهيمنَين هذه الأيام، قد يستمران وقتاً أطول مما ترغب فيه أجنحة الإدارة الأميركية (وأتباعها)، وخصوصاً صقورها. فالانتخابات، على ثانويتها، بالنظر إلى «هول» ما أصاب ويصيب القوة التي تسيّدت العالم، تبدو همّ ترامب الأول. وذلك من شأنه أن يزيد في عوامل الوهن وتصلّب الشرايين وارتخاء العضلات الأميركية.
الاستدراك يوجب القول إن الخشية الأميركية الواضحة من الحرب، ومحاولة الابتعاد عنها وعن حوافزها الكثيرة، لا تلغيان ولا يجوز أن تلغيا احتمالات أن تقع في لحظة من لحظات الحسابات الخاطئة التي طالما أثبتت واشنطن أنها أفضل من يجيدها، وبين عيّناتها الكثيرة حسابات أفغانستان والعراق وسوريا ولبنان. لقد دخلت الولايات المتحدة في مرحلة جديدة عنوانها الأبرز فقدان الهيبة، وهي مسألة مهمة في بنيان القوة المالكة لها. الهيبة واحدة من عناصر القوة، وافتقادها يحيل على ما هو أخطر: الارتداع. وهو الحال الذي أصاب إسرائيل ومهّد لاقتدار قوى المقاومة وتمكّنها اللاحق من إعلاء إرادتها وفرض كلمتها. إن الأفول الأميركي وما يترتب عليه من استعار المنافسة الضارية يعنيان أننا سنشهد احتضاراً مديداً لن يكون بلا أكلاف باهظة على العالم. والأرجح أن إدراك ترامب لتقلّص حجم القوة الأميركية ولضيق هوامشها، هو ما يدفعه إلى إعلان استنكافه عن مهنة صنع الحروب. وها هو الرجل يعلن، وبالفم الملآن، أنه لا يريد حروباً إضافية، ويؤكد حرصه على تجنّبها، ويقول أيضاً مخاطِباً ربيبته الثانية، في محاولة للإفلات من مخاطر انكشاف واقع ما آلت إليه منظومة القتل الأميركي، ومن مسؤولياته تجاه موقع الولايات المتحدة المزعوم، إن عليها أن تتحمّل مسؤولية أمنها. وللحصول على المساعدة فإن عليها الدفع النقدي.
لقد انتصرت صنعاء ومحورها، وانهزمت الرياض وأسيادها، وهذا هو الأساس الذي ستكون له تتمات غير سارّة، بل وكابوسية، للكثيرين مِمَّن هلّلوا للحرب ودعموها.