إذا كان ثمة رابح أكبر حتى الآن من سياسات إدارة دونالد ترامب العدوانية الحمقاء، فهو بلا شك روسيا. منذ وصول الرئيس الأميركي وفريقه إلى السلطة، حذر الكثير من الخبراء والمحللين من خطورة توجهاته في ميدان العلاقات الدولية مع الخصوم والحلفاء على حدّ سواء، ونتائجها بالنسبة إلى مستقبل الولايات المتحدة كقوة مهيمنة، وعلى «النظام العالمي الليبرالي» الذي رعت قيامه بعد الحرب العالمية الثانية. التطورات التي تلت ترجمة هذه التوجهات إلى سياسات فعلية أكدت صوابية التحذيرات المذكورة. لم ينجح ترامب في تطبيع العلاقات مع روسيا، لأن أطرافاً رئيسيين في إدارته وفي الدولة العميقة أطلقوا مجدداً سباقاً للتسلح معها يشكل بالنسبة إليها تهديداً وجودياً. هو أعلن أيضاً حرباً تجارية واقتصادية لا هوادة فيها على الصين، بالتوازي مع اعتماد انتشار عسكري وصاروخي في جوارها، والتورط المباشر في زعزعة استقرارها ضمن استراتيجية احتواء معلنة لصعودها السلمي. دفعت هذه السياسة إلى تعزيز الشراكة الصينية ــ الروسية بشكل لا سابق له في مواجهة الولايات المتحدة. اعتماده لـ«الضغوط القصوى» على إيران أوصل الأوضاع معها إلى حافة الحرب، ووثّق تعاونها مع روسيا والصين. طريقة تعامله مع حلفائه الأوروبيين هي من بين المحفزات الأساسية لبعض حكوماتهم، وتحديداً في ألمانيا وفرنسا، للسعي إلى فتح صفحة جديدة مع روسيا. الأمر نفسه ينطبق على تعاطيه مع تركيا التي لم يسبق لأيّ من رؤسائها، منذ تأسيس الجمهورية، أن تمتع بصلة بهذه الدرجة من «الحميمية» كتلك التي تجمع رجب طيب أردوغان بفلاديمير بوتين. هل سيقود إصرار ترامب على إذلال ملوك وأمراء آل سعود، عبر تكرار لازمته في جميع المناسبات عن ضرورة الدفع في مقابل الحماية والتي أظهر قصف «أرامكو» محدوديّتها، إلى تجرّؤ هؤلاء على محاولة بناء شراكات أخرى أمنية ــ سياسية؟ المؤكد هو أن الرئيس الروسي، الذي أرسل إليهم إشارات قوية عن استعداد روسيا للدخول في مثل هذه الشراكات، يستفيد أيضاً من الرعونة الأميركية حيالهم، كما استفاد في جميع الحالات الواردة آنفاً.
من الصعب أن تتحول السعودية إلى حليف لروسيا على حساب علاقاتها مع أميركا في المدى المنظور

أعداء بوتين الروس هم أول من يستشيط غضباً بسبب النجاحات التي يحققها نتيجة الحماقة الأميركية. أحد هؤلاء، ليونيد برشيدسكي، المعلّق في موقع «بلومبرغ»، ومؤسّس يومية «فيدوموستي» الاقتصادية الروسية الصادرة بالتعاون مع «وول ستريت جورنال» و«فايننشال تايمز»، اختار لمقاله الذي خصّصه لتحليل استراتيجية الرئيس الروسي عنواناً لافتاً: «بوتين يسعى لأن يكون عرّاب الحلول في الشرق الأوسط». عداء برشيدسكي لبوتين لم يمنعه من تقديم تقييم على قدر معقول من الموضوعية لإنجازاته. هو يرى أن الرئيس الروسي يسعى إلى إقناع جميع دول الشرق الأوسط بأن «العمل معه أكثر نجاعة من التعاون مع الولايات المتحدة». عرضه على دول الخليج شراء أنظمة مضادة للصواريخ روسية هو في الحقيقة عرض لضمانات روسية: «الهدف من شراء مثل هذه المنظومات الدفاعية ليس إسقاط طائرات العدو وصواريخه، بقدر ما هو الحصول على دعم روسي خلال الأزمات. هذا ما حدا بأردوغان، وبلده عضو في حلف الناتو، إلى أن يغامر بالتعرض للعقوبات الأميركية، وأن يُحرم من امتلاك طائرة F35». ويعتبر برشيدسكي أن التدخل الروسي الناجح في سوريا كان في أحد أبعاده استعراضاً للقوة وللقدرة، كفيلاً بإيصال رسالة إلى حكام الشرق الوسط مفادها أن «روسيا مستعدة للتدخل لصالحهم حفاظاً على الاستقرار، وستفعل ذلك بسرعة ومن دون شروط سياسية. الولايات المتحدة لا توفر أياً من هاتين الميزتين». وعلى الرغم من أن الشراكة الروسية ــ الإيرانية هي عامل استفزاز بالنسبة إلى السعودية، فإن للأخيرة مصالح مهمة مشتركة مع روسيا، أبرزها تلك الخاصة بالحدّ من الآثار السلبية على سوق النفط العالمي لتحول الولايات المتحدة إلى دولة مُصدِّرة للنفط الصخري.
من الصعب أن تتحول السعودية إلى حليف لروسيا على حساب علاقاتها الاستراتيجية مع أميركا في المدى المنظور، لكن الخبير والمعارض الروسي يعتقد أنه «على المدى المتوسط، فإن هوية القوة المؤهلة للعب دور عرّاب الحلول في الشرق الأوسط ستُحدّدها قدرة الولايات المتحدة على تحمّل مسؤوليتها. فمواجهة ترامب لإيران لم تكن فعالة بالشكل المطلوب. الحرب اليمنية، التي انحازت فيها الولايات المتحدة إلى السعودية، ما زالت مستعرة. الأسد، عدو أميركا، يسيطر على القسم الأكبر من سوريا. وتركيا لم تشعر بتبعات سلبية لتحدّيها الولايات المتحدة عبر شراء الـS400. أما بوتين، فهو يخاطب الزبائن الذين يسعى لكسبهم باللغة التي يفهمونها». دخول روسيا كوسيط على خط الأزمة في الخليج، المعتبر حتى سنوات قليلة منطقة نفوذ أميركي حصري، تحول استراتيجي كبير لا يقلّ أهمية عن انتقال تركيا من الانضباط الأطلسي إلى تعدد الشراكات. وإذا أضيفت هذه التحولات إلى الشراكات التي بنتها موسكو مع بكين وطهران ونيودلهي، على رغم تحالفها مع واشنطن، ومصالحها المتنامية مع إسلام آباد، واتجاه ألمانيا وفرنسا نحو تجاوز آثار الأزمة الأوكرانية وإعادة الدفء إلى علاقاتهما بموسكو، فمن الممكن القول إن على بوتين أن يشكر ترامب على اختزاله السياسة الخارجية الأميركية إلى عمليات تهديد ووعيد وضغوط قصوى وابتزاز. مساهمته الأبرز إلى الآن هي تسريع عودة روسيا كقوة دولية إلى أكثر مناطق الكوكب أهمية على المستويات الجيوسياسية والجيواقتصادية.