لم يمضِ وقت طويل على انتقال الجمهورية الإسلامية الإيرانية من استراتيجية النَّفَس الطويل أو الصبر الاستراتيجي، إلى استراتيجية الدفاع الفعال (المقاومة الفعالة) أو المواجهة والتصدي، حتى تغيّر المشهد رأساً على عقب. التغييرات السريعة التي أحدثتها الاستراتيجية الجديدة نالت إعجاب الأصدقاء، وشجّعتهم على الانخراط فيها، والتحمّس لإعلان ترابط جبهاتها (ليس خافياً أن بعض الأصدقاء شكّك في صوابية الاستمرار في الاستراتيجية السابقة). كذلك أربكت تلك التغييرات الأعداء والخصوم الذين راهنوا على نفاد الصبر الاستراتيجي الإيراني، غير مدركين قدرة طهران على الانتقال السريع من مربع التلقي والاستيعاب إلى مربع الفعل والمبادرة. ومن دون مقدمات، كسرت الاستراتيجية الجديدة، في وقت قياسي، حالة المكابرة والإنكار لدى الأطراف الإقليميين في الخليج، التي تحكّمت في عقولهم طوال السنوات الماضية، ليسارعوا إلى البحث عن مخارج للمآزق المستعصية التي أوقعوا أنفسهم فيها. لقد أحدثت الاستراتيجية الإيرانية الحالية مجموعة من الغرائب قلبت المشهد من حالة العداء والفجور في الخصومة، إلى المباشرة الفورية في إنهاء تلك الحالة. فالغريب أن تُجبَر الرياض على طلب الوساطة مع طهران، والأغرب منه تحول الإمارات من التقاطع مع إيران إلى التفاهم معها. وفقاً لمعلومات «الأخبار»، فإن تفاهمات على الكثير ممّا يشهده الإقليم اليوم قد حصلت بالفعل بين طهران وأبو ظبي، وإن كان الجانب الإماراتي الغارق مع «شقيقته الكبرى»، السعودية، في المستنقع اليمني يطلب من الجانب الإيراني تفهّم حساسية شراكته في «التحالف»، ومساعدته في إيجاد استراتيجية خروج من اليمن تحفظ نفوذه ودوره المستقبلي. وعليه، فإن المعادلة الراهنة التي تنطلق منها السياسات الإماراتية في الإقليم هي إرضاء إيران وعدم إغضاب السعودية. وهي معادلة شائكة، وتنفيذها غاية في الصعوبة وغير مضمون النتائج وسط تزاحم مصالح الأصدقاء والخصوم. لكن الإمارات بدأت تنفيذ ذلك بالفعل منذ إعلان انسحابها الجزئي من اليمن في الشهر الماضي، وتابعته بانقضاض وكلائها في جنوب اليمن على مقارّ خصومهم في عدن بداية الشهر الحالي، واستكمال هذه السيطرة اليوم في محافظة أبين. إلا أن مصادر متطابقة تؤكد أن بوابة التفهّم الإيراني في ما يختص بالحرب على اليمن هي صنعاء، وأن على الجانب الإماراتي التفاهم معها، وهذا ممرّ إلزامي لا بد منه، ولا سيما أن نيران الحرب، التي يشكل نظام أبو ظبي ثاني شريك فيها، باتت قريبة من حدوده. واللافت أن الحملات الإعلامية بين الطرفين الإيراني والإماراتي لا تزال على حالتها السابقة، في دلالة على أن الأخير يحتاج مزيداً من الوقت لتحقيق الاستدارة الإعلامية. والجدير ذكره، هنا، أن التحول الإماراتي تجاه إيران ليس نابعاً من سياسة حسن الجوار، وتغليب مصالح البلدين والشعبين، بقدر ما هو تعبير عن انسداد أفق السياسات العدائية تجاه إيران واليمن. على المستوى الإقليمي أيضاً، نقلت استراتيجية المقاومة الفعالة العلاقات الإيرانية ــــ اليمنية (الندية) من مرحلة الغموض والرمادية، إلى مرحلة مكّنت الطرفين من تبادل السفراء على المستوى الشكلي. أما في المضمون، فقد أتاح التغير في الاستراتيجية الإيرانية لصنعاء التموضع في محور المقاومة كشريك جيواستراتيجي، سيكون له دور بارز إزاء التحديات الحاضرة وفي المستقبل.
لقد أدت الوثبة الجريئة للقوات المسلحة الإيرانية على أهداف منتخبة ذات أبعاد اقتصادية وسياسية وجيواستراتيجية، بالتزامن مع وثبات أخرى نفذها الأصدقاء في المياه الإقليمية، إلى كشف سياسة الولايات المتحدة القائمة على التهويل والتلويح بالحرب من دون الوصول إليها، بل كشفت أن دوائر القرار والمؤسسات والمجتمع الأميركي لا يمتلكون التصميم والإرادة، فضلاً عن الجاهزية والاستعداد للحرب. وفجأة، غاب منظّرو الحرب الأميركيون عن الصدراة، وبات جلّ همّ مستشار الأمن القومي الأميركي، جون بولتون، إقناع حكومة جبل طارق، ومن خلفها حكومة بوريس جونسون البريطانية، بإبقاء الناقلة الإيرانية «غرايس 1» محجوزة في ميناء جبل طارق، قبل أن ينشغل لاحقاً بتعقب الناقلة في محاولة لمنعها من الرسو على شواطئ البحر المتوسط.
إلى ذلك، فشل الرهان على انهيار النظام الإيراني من الداخل، نتيجة فرض الحصار الخانق وغير المسبوق عالمياً، وحتى تاريخياً، من قِبَل إدارة الرئيس دونالد ترامب على إيران. تحوّل هدف قاطن البيت الأبيض من تطويع النظام (شروط الإذلال والإخضاع الـ12 لوزير الخارجية، مايك بومبيو، في منتصف العام الماضي) إلى لقاء، ولو شكلياً، مع وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف. وبعدما كان الهدف تحريك الشارع الإيراني ضد تفاقم الوضع الاقتصادي والمعيشي وانهيار العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية، الذي وُضعت له خطة إسناد من قِبَل الأجهزة الاستخباراتية الأميركية والعالمية والإقليمية تحت لافتة الحريات وحقوق الإنسان وحرية التعبير بالاستفادة من أدوات الحرب الناعمة النفسية والمعنوية (وفق المخطط الأميركي)، ها هو الشعب الإيراني يلتفّ حول قيادته، ويتكيّف مع الخطط الاقتصادية الجديدة المعتمدة على القدرات الذاتية، التي تشارك فيها الحكومة والمؤسسات الرسمية والرديفة، فضلاً عن حضور مميز للحرس الثوري في المجالات الاقتصادية والاجتماعية.
لم يقوّض قادة النظام الإيراني المخطط الأميركي فحسب، بل حوّلوا التهديد إلى فرصة، وبات طرح المرشد السيد علي خامنئي في شأن الاقتصاد المقاوم منذ قرابة عشرة أعوام خطة عمل جاهزة، ولا سيما أنه كان قد أُشبع درساً في السابق. وهي خطة قابلة للتكيف مع الظروف المختلفة التي يمكن أن تحدث في أي زمن كان. وعملياً، فإنها ستوصل اقتصاد البلاد إلى حالة مرنة، أي إنها ستمنع انكسار الاقتصاد في مواجهة التحديات المختلفة. إلا أن التوجّه نحو الاقتصاد المقاوم ليس خاصاً فقط بالجمهورية الإسلامية، بل إن جميع دول محور المقاومة وأقطابها يبنون اقتصاداتهم على هذا الأساس، ووفق ظروف كل بلد ومعادلته. ويعمل الجميع على الانفكاك عن المنظومة الغربية للاقتصاد العالمي التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية. إلا أن أبرز تجليات فشل الحصار في تحقيق غاياته، هو الالتفاف السياسي للتيارات الإيرانية في مواجهة التحديات التي فُرضت على النظام، ووقوفها صفاً واحداً مقابل التهديدات الخارجية.