انتقلت قوات الجيش واللجان الشعبية المتمركزة على تخوم المحافظات الجنوبية من الوضعية الدفاعية التي اتخذتها قرابة ثلاث سنوات، إلى وضعية هجومية مفاجئة، أدّت إلى تقدم واسع وسريع لها هناك. تقدمٌ ولّد صدمة لدى الجبهة الموالية لـ«التحالف»، وأحدث حالة إرباك في داخلها. فبعدما كانت قوات تلك الجبهة تقاتل على أبواب مدينة الحديدة، وعلى طول الساحل الغربي في الشهور الماضية، باتت معاقل خزّانها البشري في يافع وطور الباحة (محافظة لحج) ومدينة الضالع، فجأة ومن دون سابق إنذار، على مرمى حجر من قوات حكومة الإنقاذ، الأمر الذي خلط الأوراق، وقلب المعادلة رأساً على عقب. هذا الانقلاب أفقد القوى الموالية للعدوان توازنها، وأثار اختلافات في صفوفها حول كيفية التعامل مع هذا المستجد، بين مَن طالب بالنفير العام لمواجهة التهديد الداهم، ومن دعا إلى مقايضة انسحاب القوات الجنوبية من الساحل الغربي بالتزام الجيش واللجان الشعبية العودة إلى مواقعهما السابقة (أي الحدود الشطرية قبل الوحدة). كذلك، أثارت سيطرة «أنصار الله» على الجبال والمواقع الاستراتيجية في الضالع ولحج الهلع في صفوف قيادات الفصائل الملتحقة بـ«التحالف»؛ لِما تؤمنه تلك المواقع من إشراف على مناطق واسعة في المحافظتين، وما تعطيه من أفضلية لصنعاء إن قررت الأخيرة المضيّ في العمليات.
أفقدت التطورات الأخيرة القوى الموالية للعدوان توازنها وأثارت اختلافات في صفوفها


في المقابل، حرصت صنعاء على إيصال رسالة مفادها أن الوضعية العسكرية الجديدة ليست وليدة الصدفة، كذلك فإنها ليست محصورة بالاحتياجات الأمنية والدفاعية، بقدر ما هي انقلاب على المعادلة السابقة، ضمن خطة أوسع وأعمق تحدث عنها زعيم حركة «أنصار الله» عبد الملك الحوثي، عندما شدد على أن العام الخامس من العدوان سيكون عام الحسم. وفي السياق ذاته، أكدت حكومة الإنقاذ أنها ليست مضطرة إلى تقديم طمأنات للقوى الجنوبية التي سمحت لـ«التحالف» باستخدام أبنائها بندقية للإيجار خدمة لأجندته. حتى الكلام الهادئ الذي صدر عن نائب وزير خارجية «الإنقاذ»، حسين العزي، بتوجيهه نداءً إلى الجنوبيين بأنهم أولى بتحرير مناطقهم من الاحتلال، استبطن نوعاً من التهديد، حيث قال: «سيبقى سيفنا في غمده ما لم يُعتدَ علينا، وإذا احتجتمونا ستجدوننا لكم نعم الإخوة ونعم السند، سلاحاً لا يخيب، وفرساناً لا تغيب».
بناءً على ما تقدم، تبدو العمليات الأخيرة ذات دلالات عميقة، من حيث استعادة «أنصار الله» زمام المبادرة، في وقت تشهد فيه جبهات العدوان تراجعاً يؤدي مع مرور الزمن إلى تآكل منظومته البشرية التي شهدت في الأسابيع القليلة الماضية هجرة معاكسة إلى صنعاء. إذ استقبلت العاصمة العديد من القيادات المهمة والبارزة في صفوف «الشرعية»، التي عادت بالاستفادة من العفو الذي أصدره رئيس المجلس السياسي الأعلى مهدي المشاط. يضاف إلى ما تقدم، تحرك القبائل في البيضاء والضالع لمصلحة الجيش واللجان، وهو ما عدّته أوساط صنعاء أهمّ من الإنجاز العسكري بذاته؛ لكونه يشير إلى تحرر الإرادة الشعبية من التبعية، ووعيها بحقيقة الحرب. على الضفة المضادة، سيطرت حالة من الضياع على الماكينات الإعلامية الموالية لـ«التحالف»، ولجأت كعادتها إلى تبادل الاتهامات بالخيانة والجبن والفساد. وتركّز ذلك، أكثر ما تركّز، بين حزب «الإصلاح» و«المجلس الانتقالي الجنوبي»، الذي رمى الأول بـ«التعاون» مع «أنصار الله» وتسهيل عملية السيطرة على المناطق المستهدفة.
وكانت قوات الجيش واللجان قد أحرزت، نهاية الأسبوع الماضي، تقدماً واسعاً حقّقت من خلاله السيطرة على ثلاث جبهات استراتيجية وسط البلاد، وهي العود والخشبة وحمك بمساحة إجمالية تُقدر بمئتين وخمسين كيلومتراً مربعاً، وتشمل أكثر من مئة قرية وعشرات المواقعِ العسكرية. وبالتوازي مع ذلك، نفذت القوات المشتركة عملية التفافية ناجحة على مواقع «التحالف» في ذي ناعم في محافظة البيضاء، تمكنت على إثرها من إحكام السيطرة على جبل حلموص الاستراتيجي، فضلاً عن أكثر من 20 موقعاً. والجدير ذكره أن الجيش واللجان سيطرا نهاية الشهر الماضي على نحو مئة موقع عسكري في جبهة مريس في مديرية قعطبة شمالي محافظة الضالع، كذلك كسرا الهجمات المتكررة على جبهة صعدة، بالترافق مع إخماد فتنة حجور في محافظة حجة، وكسر محاولات تقدم في جبهة ميدي في المحافظة نفسها.