حقّقت مشاورات السويد الحدّ الأقصى المُمكِن إنجازه، والأقرب إلى انعكاس التوازنات الحالية، إذ لم يكن لأي طرف من الأطراف القدرة على تحقيق الحسم على الأرض، فأَمْلت الواقعية السياسية والميدانية اللجوء إلى الاتفاق الأخير، باعتباره الأقل تكلفة والأكثر جدوى، وبوصفه مخرجاً للقوى الدولية من تهمة التسبب في المأساة الإنسانية جراء دعمها السياسي والعسكري للنظامَين السعودي والإماراتي في حربهما ضد اليمن. على أن الاتفاق يواجه عقبات متمثلة في محاولة «التحالف» انتزاع مكاسب في عملية تنفيذ قواعده التطبيقية والإجرائية، بعدما عجز عن ذلك بالوسائل السياسية والعسكرية. مرد تلك المحاولات أن تفاهمات استوكهولم تنسجم وطموحات سلطات صنعاء في هذه المرحلة، فيما لا تصبّ الظروف الموضوعية الراهنة في مصلحة دول العدوان، لا سيما السعودية التي يدور تجاذب دولي، وآخر داخلي أميركي، على سياسات نظامها (الوظيفي)، فضلاً عن أصل وجوده، في مقابل اعتراف بنمو القدرات العسكرية والسياسية لحركة «أنصار الله» وتطوّرها، واتساع رقعة الاعتراف بها على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.تلقي نتائج مشاورات السويد بظلالها، وستبقى كذلك في الشهور المقبلة، على المشهدين اليمني والإقليمي، لكون نتائجها هي الخرق الأول في الجدار السميك للأفق السياسي، الذي بقي مسدوداً وعصياً على الاختراق طوال عمر الحرب على اليمن. اتفاق الحديدة هو إقرار بالمعادلة التي فرضها الصمود الأسطوري للشعب اليمني، في مقابل تآكل منظومة العدوان على المستويات كافة. تآكل يُتوقع أن يُترجَم تراجعاً إضافياً لـ«التحالف» في الجولات التفاوضية المقبلة، وإِنْ بخطىً بطيئة. كان بإمكان المفاوضات الأخيرة إنجاز أكثر مما أُنجز في ملفَّي الأسرى والحديدة، لكن الخشية من أن يعطي توقيع اتفاقات إضافية حركة «أنصار الله» دفعاً سياسياً يظهرها بمظهر المنتصر، وأنها أَمْلت شروطها على الطرف الآخر، حالت دون التوقيع على ملفات شبه منجزة كان قد تم الاتفاق عليها خلال الزيارات المكوكية لمبعوث الأمم المتحدة مارتن غريفيث إلى صنعاء والرياض. من هنا، أرادت دول العدوان، ومن خلفها واشنطن، التخفيف من وطأة الإنجاز السياسي، عبر ترحيل بقية الملفات إلى الجولات المقبلة لإمرارها مع الوقت.
سيحاول «التحالف» انتزاع مكاسب في عملية تنفيذ اتفاق الحديدة


ما حصل في السويد لم يكن مجرد إكرام أو ترضية للأمين العام للأمم المتحدة الذي استحصل على موافقة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، من خلال الاتصال الهاتفي بينهما عشية التوقيع على الاتفاق، بل هو يعكس بوضوح هشاشة منظومة العدوان بقيادة السعودية والإمارات، ويحمل دلالات عميقة كونه يأتي بعد فشل السياسات المتهوّرة التي أدارتها كل من الرياض وأبو ظبي في الإقليم. وانطلاقاً من ذلك، يمكن القول إن المعادلة الجديدة، أي سقوط زمن فرض الإرادات، لن تكون يتيمة، وسيتبعها طريق سياسي تفاوضي طويل وصعب، بهدف تثبيت تلك المعادلة، وهذا سيتطلّب نَفَساً طويلاً وحنكة سياسية.
ومن المفيد التذكير، هنا، بأن وفد الرياض حضر إلى السويد خالي الوفاض على المستوى السياسي، وحتى على المستوى الإداري، ولم يصطحب معه أي ملفات أو وثائق أو مستندات أو صور، وسعى إلى المماطلة وكسب الوقت إلى أن جاءه الاتصال من الرياض. وبعد الإعلان عن الاتفاق، انهال على الوفد سيل من الاتهامات بالتفريط والانحياز عن الاهداف المرسومة، وذلك من قِبَل منظومة الإعلام والشخصيات السياسية المموّلة من اللجنة السعودية الخاصة باليمن، وكذلك منظومة أبو ظبي على حد سواء، ما اضطر الوفد إلى الاعتراف بأن ما حصل يمثل رغبة سعودية ودولية لم يكن في مقدوره مواجهتها. وفي ما بعد، أطلق الوفد تفسيرات للاتفاق مغايرة للنصوص الواضحة، وهو سيحاول التذاكي في فرض تلك التفسيرات على القواعد الإجرائية والتطبيقية.
من جانبها، تصرّ صنعاء على المسار السياسي التفاوضي، بعدما رسمت خطة استراتيجية للتفاوض عبّر عنها زعيم حركة «أنصار الله»، عبد الملك الحوثي، في أكثر من مناسبة، بالتوازي مع استمرار الجاهزية العسكرية على الجبهات. وترى صنعاء أنها معنية أكثر من غيرها بالمرونة السياسية لرفع المعاناة ومعالجة القضايا الإنسانية جراء الحرب، وهي لهذه الغاية قدمت وستقدم التنازلات، مع الحرص على أن وفدها لن يعطي بالسياسة ما عجز العدوان عن انتزاعه بالوسائل العسكرية. وقد أبلغ وفد صنعاء سفراء دول مجلس الأمن في اليمن، الذين واكبوا المفاوضات، الجاهزية الكاملة للاتفاق على الملفات كافة، سواء في ما يتعلق بالمرحلة الانتقالية، أم الترتيبات السياسية والأمنية وغيرها. وفي ردّه على ما قيل من أن وفد صنعاء تمتّع هذه المرة بالنضج السياسي، أجاب الوفد بأن هذه هي طروحاتنا منذ أربع سنوات، ولو غبتم أربع سنوات أخرى فستجدون الرد نفسه، ولن نغيّر أو نبدّل فيه شيئاً.