لا يكاد المشهد في جنوب اليمن عام 2018 يفارق ما كان عليه قبل 180 عاماً. استعمار يتدثّر بالأكاذيب، يسيطر على الأصول الحيوية ويتسلّط على السكان، ويسعى فيهم على قاعدة «فرّق تسد». المضحك المبكي بالنسبة إلى الجنوبيين هو أن الاستعمار البريطاني بات يُعدّ «رحيماً» مقارنة بوريثه الإماراتي ـــ السعودي، الذي تجاوز كل ما يمكن أن يمارسه محتلّ بحق محتلين. حقيقة يرى كثيرون أنها ستبدّد أحلام أبو ظبي والرياض سريعاً، وتقصّر عمر استيطانهما لهذه البقعة من جنوب الجزيرة العربية.بعد مرور 55 عاماً على استقلال جنوب اليمن من الاحتلال البريطاني، عاد الجنوب مجدداً إلى الاحتلال. أجزاء واسعة، من ضمنها الجزر والموانئ والشريط الساحلي والمنشآت النفطية والغازية، تسيطر عليها الإمارات، وما تبقى في المنطقة الشرقية (المهرة) أصبح تحت سلطة السعودية. قبل 180 عاماً، دخلت قوات الاستعمار البريطاني، عبر ميناء صيرة، إلى مدينة عدن تحت ذريعة مكافحة القرصنة. وفي سيناريو مشابه، لكن في القرن الحادي والعشرين، دخلت قوات محمد بن زايد (ولي عهد أبو ظبي) إلى المدينة عبر ميناء البريقة، تحت ذريعة مواجهة «التمدد الإيراني» في الجزيرة العربية وتأمين الملاحة الدولية هذه المرة.
وعلى رغم استنساخ أبو ظبي التجربة البريطانية في ما يتعلّق بتقسيم الجيوش المحلية التي أنشأتها، وتسمياتها المناطقية، إلا أن تجربة الإمارات لا يبدو، بعد قرابة 4 أعوام من الحرب، أنها ستُعمّر كنظيرتها البريطانية التي امتدّت لـ129 عاماً. والسبب في ذلك أن أبو ظبي انتهجت سياسة تدميرية لمؤسسات الجنوب الحيوية ومنشآته بما لا يقاس بما فعله الاستعمار البريطاني، إذ وضعت يدها على ميناء عدن الذي يمثّل أهم ميناء في المنطقة، وجمّدت الحركة التجارية فيه، كما حوّلت مطار المدينة الدولي إلى ثكنة عسكرية، وأوقفت الرحلات الدولية عبره باستثناء عدد يسير خلال الأسبوع. وعلى المستوى الأمني، تحوّلت مدينة عدن التي تتقاسمها الميليشيات التابعة للإمارات إلى أكثر المدن رعباً في العالم، حيث وصل عدد عمليات الاغتيال فيها إلى ما يعادل 3 عمليات في اليوم.

التدمير الممنهج للحياة
لا مقارنة بين الاحتلال البريطاني واحتلال «التحالف» للجنوب. هكذا يقول جيل الثورة. أفسحت بريطانيا، على مساوئها، الفرصة أمام المستعمَرين لنيل التعليم، ولم تَحرمْهم من الخدمة الصحية، ومنحت الموظف مرتباً موازياً لما يتقاضاه الموظف في لندن. لكنها بقيت احتلالاً، وبقي السعي إلى الاستقلال والسيادة الوطنية يحدو الجنوبيين، حتى انفجرت «ثورة أكتوبر» مطلع الستينيات من مدينة ردفان في محافظة لحج. في المقابل، مارس «التحالف» سياسة تدميرية مسّت كل مناحي الحياة، حيث عطّل المرافق الحيوية كافة، واستولى على المنشآت الإيرادية، فيما تولّت أبو ظبي تصدير النفط بطريقة غير مشروعة من حضرموت وشبوة، وسيطرت على الجزر اليمنية وسواحل البحر العربي والبحر الأحمر، ومنعت الاصطياد في المياه اليمنية، ما أفقد 4 ملايين يمني مصدر دخلهم، وأنشأت مصنعاً لتصدير الأسماك في جزيرة سقطرى، وآخر في جزيرة ميّون المطلّة على مضيق باب المندب، والتي حوّلتها أبو ظبي إلى قاعدة بحرية وعسكرية لها.
وصل عدد عمليات الاغتيال في عدن إلى ما يعادل 3 في اليوم

ووفقاً لمصادر مطلعة تحدثت إلى «الأخبار»، فإن الإمارات استقدمت شركة «نابوذا» الباكستانية التي شرعت في العمل في الجزيرة قبل أشهر، وردمت مواقع الاصطياد الخاصة بأبناء ميّون البالغ عددهم 350 مواطناً، كمقدمة لترحيلهم. كلها ممارسات عجّلت في اندلاع التظاهرات الشعبية المناهضة لـ«التحالف» والمطالِبة برحيله، خصوصاً أن المجاعة وصلت إلى بعض المدن الجنوبية، بعد تفاقم الأزمة الاقتصادية التي تتحمّل السعودية والإمارات المسؤولية عنها بسبب الحرب والحصار.

جرائم التصفية والتعذيب
لم تتورّع الدولة الثانية في «التحالف» عن تنفيذ عمليات تصفية جسدية بحق القيادات السياسية والدينية المناهضة لها، حيث أقدمت الأجهزة التابعة لأبو ظبي على تصفية العشرات في مدينة عدن، فيما تمّ الزجّ بالآلاف في السجون السرية التي تديرها الإمارات. وبحسب ما يروي لـ«الأخبار» أحد السجناء الذين أفرجت عنهم أبو ظبي أخيراً، فإن «10 سجون سرية تديرها الإمارات في عدن، وتمارس بحق المعتقلين فيها التعذيب، الذي أدى إلى وفاة 41 معتقلاً». وأشار المصدر إلى أن عمليات التعذيب يمارسها «ضباط إماراتيون، ومعهم كولومبيون، بعدة طرق، منها وضع المعتقل في (ضغاط) وهو دولاب حديدي مُفصّل على مقاس الشخص، يقيّد حركته، وتوجد فيه فقط أربع فتحات للأنف والفم والعينين». وأضاف أن من طرق التعذيب أيضاً، «الكلاب، ولدى الضباط الإماراتيين كلبة يُلقّبونها شاكيرا، يطلقونها أثناء التحقيق مع المعتقلين»، لافتاً كذلك إلى أن «هناك اعتداءات جنسية».
انتهاكات واعتداءات تتجاوز بأشواط ما فعلته بريطانيا في الجنوب. نموذج من ذلك، أن الفدائي خليفة عبد الله خليفة، الذي لا تزال بطولته عالقة في ذاكرة الجنوبيين، نفّذ في أيلول/ سبتمبر 1963 عملية ضد القوات البريطانية في مطار عدن الدولي، حيث ألقى عليها قنبلة يدوية أدت إلى إصابة المندوب البريطاني، ومقتل نائبه، وجرح 35 بريطانياً أيضاً. لكن المفارقة أن خليفة ترشّح للانتخابات التشريعية وهو داخل المعتقل البريطاني، وحصد أكبر عدد من الأصوات في مدينة عدن، ليتمّ إطلاق سراحه، فيما تمارس أبو ظبي الانتهاكات ضد متهمين من دون محاكمات، أغلبهم أبرياء.
هذه الملفات جميعها تضع «التحالف» في مواجهة الشعب، الذي عبّر عن غضبه بتظاهرات شبه يومية تطالب «التحالف» بالرحيل، وجاءت ذكرى «ثورة أكتوبر» لتزيد حراكه زخماً، في انسجام مطلق مع مبادئها التي دعت إلى خروج المحتل، وتصفية القواعد العسكرية، وإعلان الاستقلال في وطن كامل السيادة.