لم يخرج الإنكليز من اليمن راضين مرضيين. عام 1967، أجبرتهم جبهة التحرير والجبهة القومية، بدعم يمني شمالي ومصري ناصري، على الخروج قبل الموعد المحدد، تحت وطأة العمليات العسكرية، ومقاومة رفاق راجح لبوزة، وقحطان محمد الشعبي، وعبدالله الأصنج. مقاومة تأخرت انطلاقتها بصورة الكفاح المسلح الشامل، المتدفق من جبال ردفان في 14 تشرين الأول/ أكتوبر 1963، أكثر من 120 عاماً، في ظل استعمار هو من الأطول في تاريخ المنطقة.
قدّم اليمن وقتها انتصاراً حاسماً لمصلحة المعسكرين الاشتراكي والناصري، إلا أن الجغرافيا الاستراتيجية ظلت محل أطماع القوى الغربية، في مقدمها المستعمر القديم: بريطانيا نفسها. اليوم، وفي لحظة إعادة تشكيل المنطقة، لا يكتفي البريطانيون بقواعدهم العسكرية في الخليج العربي. تتطلع المملكة المتحدة إلى حجز مكانها، بجانب الأميركيين، واستعادة موطئ قدم إضافي عند تقاطع المنافذ الاستراتيجية المائية من حول باب المندب.
تتحدث مصادر أمنية يمنية عن مسعى بريطاني حثيث للعب دور في تلك المنطقة، ولا سيما في ملف الملاحة البحرية الدولية، يكون منطلقه قاعدة دائمة في عاصمة الجنوب اليمني عدن.

تظهر المقارنة التاريخية استعادة الإماراتيين الأوراق البريطانية نفسها

وترصد «أنصار الله»، وفق مصادر في الحركة، تحركات بريطانية «مشبوهة»، منذ أشهر، في المياه الإقليمية والمنطقة الممتدة من البحر الأحمر إلى الخليج، مروراً ببحر العرب. تتضافر الدلالات على اهتمام بريطاني باستعادة أدوار قديمة عند المنافذ البحرية الاستراتيجية في أكثر من نقطة، من بينها اليمن. وفي جنوب اليمن تحديداً، يعتقد البريطانيون، على ما يبدو، أنها اللحظة «المثالية» لاستعادة شيء من المكاسب السابقة. في المعلن، تبرز بعض الأخبار التي تعزز المخاوف اليمنية من المطامع البريطانية وإمكانية بناء القاعدة العسكرية. منها زيارة وفد عسكري بريطاني، برفقة آخر سعودي، لعدن، قبل أسابيع، وقيامهما بـ«جولة استطلاعية». حينها، لم تقنع الكثيرين تصريحات رسمية خرجت على لسان قائد القوى البحرية والدفاع الساحلي في القوات الموالية للرئيس المنتهية ولايته عبد ربه منصور هادي، عبدالله سالم النخعي، وضعت الجولة في إطار تقديم الدعم العسكري اللازم وإعادة بناء وتأهيل وتدريب منتسبي القوى البحرية «وخاصة المجندين الجدد المرقمين أخيراً، والبالغ عددهم قرابة ألف مجند، للقيام بمهمات تأمين خليج عدن وباب المندب والمياه الإقليمية». وأكد الجنرال النخعي «تلقي القوات البحرية اليمنية وعوداً بالدعم من بريطانيا»، مضيفاً أن «وفداً عسكرياً من المملكة المتحدة زار القوى البحرية مطلع الشهر الماضي، وعرض تقديم مساعدات لإعادة بناء وتأهيل القوات البحرية اليمنية».
بالعودة إلى المصادر الأمنية، فإن القوات المشار إليها يراد لها أن تكون جزءاً من ترتيبات أمنية وعسكرية على طول المنطقة البحرية الاستراتيجية، تخضع لإدارة بريطانية يرجح أن تعمل من مقر البحرية اليمنية في منطقة التواهي بعدن. وفي الأخبار المعلنة كذلك، تحرص بريطانيا على التحذير من «الخطر المتزايد» على سفن الشحن التجاري في باب المندب وخليج عدن. أحد هذه التحذيرات تضمّن عبارة تلمّح إلى المساعي البريطانية تلك، عبر القول إن «هناك حاجة إلى تخطيط صارم للعمليات في المياه المحيطة باليمن».
هذه الأطماع، إن صحت المساعي إليها في الوقت الراهن، ظلت على الدوام مطلباً بريطانياً حتى لحظة الخروج من اليمن. يقال إن البريطانيين غداة خروجهم من اليمن الجنوبي قبل 50 عاماً (تشرين الثاني/ نوفمبر 1967)، ألحّوا على الثوار بتوقيع اتفاق على إبقاء قواعد عسكرية «ولو رمزية»، مقابل خمسة ملايين دولار لخزينة الحكومة المشكلة حديثاً من قيادات جبهة الثورة. إلا أن مطلبهم أجهض وقوبل برفض صارم من حكومة «جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية» كما ستعرف لاحقاً. وظلت العين على الجزر اليمنية الاستراتيجية، مع محاولات لانتزاع بعضها من اليمن، كما تؤكد الوثائق التاريخية (منها: جزيرة كمران وجزر بريم وكوريا موريا).
يصر سياسيون يمنيون على التحذير الدائم من المشاريع البريطانية لبلادهم، ومن بينها التقسيم، ويؤكدون أن الإنكليز لديهم «تركات» في اليمن، أبرزها رعاية بعض الزعامات السياسية أو القبلية التي كانت متعاونة معهم، وللمفارقة أن من بين هؤلاء والد الرئيس اليمني المستقيل عبد ربه منصور هادي، الشيخ القبلي النافذ في أبين (اللافت أن مصادر تتحدث عن مساعدة المخابرات البريطانية لهادي في هروبه من العاصمة صنعاء عام 2015، والجدير بالذكر أن هادي درس في بريطانيا بعد حصوله، إبان عهد الاستعمار، على منحة دراسة عسكرية هناك، بعد أن عمل مرافقاً لضابط عسكري بريطاني في اليمن).
الواقع الأمني والسياسي في الجنوب اليمني اليوم، يشبه، بحسب حديث سياسيين يمنيين، تماماً خريطة الأوضاع إبان الاستعمار البريطاني. وتظهر المقارنة التاريخية استعادة الإماراتيين الأوراق البريطانية نفسها في تلك الحقبة، وخصوصاً أسلوب تفريخ التشكيلات العسكرية ومجالس الحكم المناطقية المتفرقة، وإحكام السيطرة على الجزر الاستراتيجية. وتجزم مصادر يمنية أمنية بصحة معلومات حول وجود ضباط ومستشارين في عدن، يلعبون دور الدعم اللوجستي والاستشاري والإشراف على نشاط «التحالف» السعودي الإماراتي، ولا يصرح عن نشاطهم علناً كما هي حال المشاركة الأميركية في الحرب.
بين 14 أكتوبر 1963، و14 أكتوبر 2017، متشابهات وفيرة، وفوارق شاسعة في آن. انقلبت الصورة في اليمن الجنوبي، وانقلبت مفاهيم، وتبدلت أدوار، وبقي المشترك بين زمنين: الخاصرة الجنوبية للجزيرة العربية، بما تتوافر عليه من موقع استراتيجي وثروات، ساحة لعبث الغرباء، ومسرحاً للأطماع ونهب المهيمنين، القدماء والجدد.
«الزمن الجميل» لآخر جبهات التحرير والتحرر من أطول الاستعمارات في المنطقة (128 عاماً)، ذهب مع انحسار المدين اليساري والناصري. ما بقي من تلك الحقبة مسميات وشعارات ونجمة حمراء، أعيد «تدويرها» اليوم تحت المسمى نفسه: «المقاومة الجنوبية»، ولو كانت «مقاومة» من خندق المحتلين الجدد. والمحتلون هؤلاء «محرِّرون»، وفق مقتضيات انقلاب المفاهيم وتبدل الأدوار. بالعودة إلى عام 1963، عام اندلاع الثورة اليمنية ضد المستعمر البريطاني، يتكرر مشهد اليوم المتمثل بطابور طويل من المنتفعين والمهادنين للمستعمر من إمارات وسلطنات ومشيخات وميليشيات. لكن مع استعادة تاريخ ليس بقديم، فإن الطامعين ليسوا بمأمن من خروج مقاومة جدية، تلاقي ثورة حقيقية في الشمال، ولو بعد عشرات السنين، وهو ما يشهد عليه 14 أكتوبر من كل عام.