سواءٌ شجّعت منتخب الأرجنتين أو لم تشجعه، عليك الاعتراف بأنه لم يكن المنتخب الفائز باللقب الأفضل فنياً، لا في مونديال قطر ولا في تاريخ كؤوس العالم السابقة إذا ما قارناه مع أولئك الذين صعدوا إلى منصة التتويج، أقلّه في المونديالين الأخيرين اللذين شهدا تتويج المنتخبين الألماني والفرنسي على التوالي.ولا مغالاة حتى بالقول إن منتخب فرنسا الذي خسر المباراة النهائية كان أفضل فنياً على مدار البطولة، وحتى تكتيكياً وإستراتيجياً في النهائي لأنه امتلك ببساطة المدرب الأفضل وهو ديدييه ديشان الذي تفوّق على نظيره الأرجنتيني ليونيل سكالوني في فتراتٍ عدة من اللقاء المشهود.
لكن لا يهمّ، إذ لن يذكر أحدٌ هذا الأمر بعد فترةٍ قصيرة. لن يذكروا سقطة الأرجنتين أمام السعودية في افتتاح مشوارها المونديالي إلا في مناسباتٍ معيّنة، ولن يذكروا فترات الصعود والهبوط التي عرفها منتخب «بلاد الفضة» أمام هولندا ومن ثم فرنسا حيث تقدّم بهدفين نظيفين قبل أن يجد نفسه واقفاً أمام مصير ركلات الترجيح. الكل سيذكر أمراً واحداً وهو أن الأرجنتين رفعت الكأس الغالية للمرة الثالثة في تاريخها، ونجمها الأول ليونيل ميسي حُمل على الأكتاف في صورةٍ بدت نسخة طبق الأصل عن تلك التي عرفها العالم مع تتويج «الألبيسيليستي» و«الأسطورة» الراحل دييغو أرماندو مارادونا باللقب.

مشاهد خالدة
وهذه الصورة هي عيّنة من ما تتركه كأس العالم عادةً من إرث للأجيال، إذ إن هذه البطولة هي عبارة عن مصنع ذكريات أبدية لا تكترث أبداً للمستوى الفني ولا يأخذ التحليل أبعاداً كثيرة، إذ إن الرومانسية والنوستالجيا تبدوان العنوان الرئيسي لها، فيكون الحديث المستقبلي عن ما علق في ذاكرة المتابعين، والأمثلة كثيرة سابقاً وحاضراً.
كأس العالم لا تكترث للمستوى الفني فهي عبارة عن مصنع ذكريات أبدية


فعلاً عندما نقول مونديال 1986 مثلاً، يقفز إلى الصورة فوراً مشهد تسجيل مارادونا هدفاً في مرمى إنكلترا، وآخر بعدما راوغ نصف منتخب «الأسود الثلاثة» وحارسه بيتر شيلتون. وعندما نقول مونديال 1994 نستذكر كرة الإيطالي روبرتو باجيو التي طارت فوق العارضة بعيداً لتهدي البرازيل لقباً انتظرته 24 عاماً. وعند ذكر مونديال 1998 نذكر رأس زيدان الذهبي في النهائي، وهو الرأس نفسه الذي يستذكره العالم عند الحديث عن مونديال 2006 حيث لم يتوانَ «زيزو» عن «نطح» الإيطالي ماركو ماتيراتزي بسبب إهانته له، لتتحوّل بعدها هذه اللقطة إلى تمثالٍ ضخم في قطر!
المشاهد الكثيرة للحظات الخالدة لا تنتهي، وهو ما أفرزه المونديال المنتهي حديثاً، إذ صحيح أن المستوى الفني للمباريات كافةً كان ممتازاً بسبب حضور اللاعبين إلى قطر في منتصف الموسم الكروي تقريباً، وفي أفضل جهوزيةٍ تامة، إلا أن لقطات معيّنة لن تغيب عن ذاكرة وأحاديث الجيل الحالي من متابعي الكرة، والجيل المستقبلي الذي إذا ما إن قرّر البحث في ألبوم الماضي سيجدها أمامه قبل أي شيءٍ آخر.

إرث أزليّ
مشاهد وصور إرث المونديال القطري كثيرة، تبدأ من خارج الملاعب حيث طافت الأمواج الأرجنتينية في شوارع العاصمة الدوحة، وصدحت أصوات مشجعين متيّمين بمنتخبهم. وتُستكمل بإثارة جدلٍ تحكيمي بين ما أقرّته التكنولوجيا وبين ما تجاهلته ربما، على صورة تلك الكرة التي جاء منها هدف اليابان الثاني في مرمى إسبانيا ليحمل منتخب «الساموراي» إلى الدور الـ 16 ويقصي المنتخب الألماني. الكرة خرجت أم لم تخرج من الملعب؟ لا يهم، فالنتيجة هي صورة أزلية عن واحدة من أكثر اللقطات الإثارة للجدل.
واحدة منها أيضاً سألت: هل لمست الكرة شعر رونالدو قبل أن تهز شباك الأوروغواي؟ بالفعل هذا السؤال وهذه اللقطة طغيا على تألق برونو فرنانديش مع منتخب البرتغال حتى بعد تسجيل ذاك الهدف باسْمه، ما يؤكد أن اللحظات هي الأساس في كأس العالم.


لنذهب إلى الأرجنتين ونستعِدْ مشاهد غريبة لمشجّعين ذهبوا إلى وشم أجسادهم لنجمهم ميسي وهو يقوم بالردّ على مدرب هولندا لويس فان غال بطريقةٍ نادرة. ميسي نفسه سيكون الوشم المشترك لآلاف الأشخاص من أبناء بلاده، محتفلاً أو رافعاً الكأس، وهي اللقطة التي خُلّدت ولن تُنسى أبداً خصوصاً بعدما ألبسه أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني «البشت العربي»، فكان في اليوم التالي لختام المونديال الحديث الأوسع في الإعلام الغربي عن هذا المشهد أكثر منه عن أسباب فوز الأرجنتين وخسارة فرنسا.
إنها كأس العالم بواقعها الحقيقي، وهي مسألةٌ يعرفها «الفيفا» الذي لو كان يكترث للمستوى الفني لما قرّر رفع عدد المنتخبات إلى 48 ابتداءً من النهائيات المقبلة، فهو يعلم أنه لن يصيب الهدف المالي الذي وضعه في مشروع 2022-2026 إذا لم تخلق اللعبة المزيد من اللحظات التي ترفع من عدد متابعيها ومشاهديها والمستثمرين فيها، لتكون النتيجة النهائية 11.5 مليار دولار أميركي من الأرباح الصافية.