بين اختيار التشكيلة المثالية واعتماد أسلوب لعب محدّد، تتباين خطط المدربين وتتغير مع اختلاف الرؤية الفنية والتكتيكية لكل منهم. أحدهم يعوّل على اللعب الهادئ والمنظم، وآخر يعتمد على الهجمات المرتدة والسرعة في الأداء. عقولٌ مختلفة هذبتها التجارب لتحمل فلسفات كروية متباينة. وتعدّ بطولة كأس العالم فرصةً مثاليةً ليبرهن كل مدرب صحة نظرياته ودقة اختياراته، وليثبت جدارته كمدربٍ طامح ليحصد العلامة الكاملة ويخلد اسمه بين الأقوى. منهم من نجح في أداء مهمته هذه، ومنهم من سقط سقوطاً مدوياً. إلا أنّ المونديال هذا العام حمل في طيّاته حزمةً من المفاجآت، ليس على صعيد اللاعبين فقط، إذ كان للمدربين نصيبهم من ذلك أيضاً. فشهدت البطولة العالمية تألق عدد من المدربين الذين ظهرت بصمتهم واضحةً على أداء منتخباتهم، على الرغم من توديع بعضهم لها.

ستانيسلاف تشيرتشيسوف
إلى الوراء، إلى الأمام

«إلى الأمام من دون خوف أو شك»، تلك هي فلسفة ستانيسلاف تشيرتشيسوف في حياته بشكل عام وفي عالم كرة القدم بشكل خاص. مدرب صاحب رؤية دقيقة وعزيمة كبيرة جعلته من أبرز مدربي المونديال الحالي. أمل تشيرتشيسوف في صناعة التاريخ على أرضه، وفي أن يصبح أول مدرب يقود روسيا (ما بعد الاتحاد السوفياتي) إلى تخطي الدور الأول في كأس العالم للمرة الأولى. وضع الروسي التأهل نصب عينيه، وحققه بجدارة. وبالرغم من عدم خوض المنتخب الروسي مباريات التصفيات أو أي مباريات رسمية، ومعاناة المنتخب الروسي من إصابات في الدفاع، وافتقاره إلى لاعبين من مستوى عالمي في الهجوم، إلا أنّ تشيرتشيسوف أجبر المشجعين على تغيير آرائهم حيال المنتخب، بعد توقع الكثيرين بأن يحقق المنتخب فشلاً ذريعاً. فقاد ثورة تغيير كبرى في الفريق، بعد نتائج المنتخب المخيبة في بطولة أمم أوروبا 2016. ونجح المدرب الروسي في خفض متوسط أعمار الفريق، فلم يقم باستدعاء اللاعبين الشبان فحسب إلى قائمة المنتخب بل أدخلهم أيضاً في التشكيلة الأساسية.
كما تخلى بشكل مفاجئ عن عدد كبير من نجوم المنتخب كفاسيلي بيريزوتسكي وسيرغي إيجناشيفيتش، وقرر عوضاً عن ذلك الاعتماد على وجوه جديدة من اللاعبين المحليين. إلى جانب ذلك، غيّر طريقة اللعب ليصبح الاعتماد على ثلاثة لاعبين في الخط الخلفي، سعياً منه للتأقلم مع التغييرات الجديدة التي طرأت على المنتخب بعد اعتزال لاعبين سابقين. لم يبالِ تشيرتشيسوف بالضغوطات التي تعرض لها، وحقق إنجازاً غير مسبوق حين أطاح بالـ«ماتادور» الإسباني، ليقود بعدها «الدب الروسي» للوصول إلى ربع نهائي البطولة، ثم الخروج مرفوع الرأس بضربات الترجيح أمام كرواتيا بعد أداءٍ مشرّف.

زلاتكو داليتش
البناء ثم البناء ثم البناء

لم يكن في حسبان أحد أن يشكل المنتخب الكرواتي مفاجأة المونديال الروسي، لكن ما قدمته كتيبة المدرب داليتش خلال البطولة العالمية فاقت كل التوقعات. منتخب مرشح بقوة للتتويج باللقب، ولا سيما بعد المستوى القوي والمتماسك الذي قدمه اللاعبون خلال المنافسات، لينجح زلاتكو داليتش في قيادة المنتخب لتصدر المجموعة الرابعة ويضمن تأهله مبكراً للدور ثمن النهائي من مونديال روسيا. داليتش الذي عُيّن بصورة مفاجئة بعد إقالة المدرب أنتي ساسيتش، الذي رحل عن تدريب المنتخب الكرواتي بسبب دخوله في خلافات قوية مع اللاعبين، تفوق على نفسه في أداء المهمة الجديدة الموكلة إليه. حمل داليتش على عاتقه مسؤولية تأهل منتخب بلاده للمشاركة في بطولة كأس العالم، وأكد أنه في حال فشلت كرواتيا في الصعود للمونديال فسيتقدم باستقالته من المنصب. إلا أنه استطاع إعادة هيكلة المنتخب في فترة وجيزة ونجح في استثمار المواهب الفنية وعناصر الخبرة المتوجودة في الفريق، لتظهر كرواتيا بصورة قوية في دور المجموعات. حقق داليتش التوازن المطلوب بين اللاعبين الشباب والمحترفين، واستغل وجود خط وسط متكامل يحلم أي مدرب بالإشراف عليه. فقاد المدرب الكرواتي «الناريون» في المباراة الأولى ببطولة كأس العالم للفوز على المنتخب النيجيري بثنائية بيضاء، ثم تحقيق فوز كبير على المنتخب الأرجنتيني بثلاثية نظيفة، تلاها الفوز على منتخب آيسلندا في الجولة الثالثة من مرحلة دور المجموعات رغم إراحته للعناصر الأساسية والدفع باللاعبين البدلاء. ورغم إخفاق الفريق في تحقيق الفوز على الدنمارك وانتهاء المباراة بالتعادل 1-1 في الوقتين الأصلي والإضافي، إلا أنّ ذلك لم يؤثر على مشوار المنتخب في البطولة أوعلى طموح داليتش، الذي وصل مع لاعبيه إلى النهائي بعد التفوق على المنتخب الروسي في ربع نهائي البطولة، وعلى إنكلترا في نصف النهائي.

أكيرا نيشينو
أربعة أرقام قياسية

على الرغم من أنّ المدرب الياباني نيشينو لم يملك الكثير من الوقت للاستعداد لكأس العالم لأنّ الاتحاد الياباني لكرة القدم قرر تعيينه قبل شهرين على انطلاق نهائيات المونديال، إلا أنّ ما حققه مع المنتخب الوطني كان كافياً لينال احترام وتقدير الجماهير اليابانية. فخلال تجربته الأولى مع المنتخب الأول، نجح نيشينو في قيادة اليابان لتكون الأفضل آسيوياً في كأس العالم. وحدها اليابان تخطت دور المجموعات من بين خمسة منتخبات آسيوية مشاركة في البطولة، فيما احتلت منتخبات السعودية وكوريا الجنوبية وإيران المركز الثالث عن المجموعة الأولى والخامسة والثانية، في حين تذيل المنتخب الأسترالي المجموعة الثالثة بنقطة وحيدة، كأقل المراكز الآسيوية. استفاد المدرب من خبرة لاعبي خط الوسط ماكوتو هاسيبي لاعب أيرنتراخت فرانكفورت الألماني وهوتارو ياماغوتشي لاعب سيريزو أوساكا، ومن المخضرمين كيسوكي هوندا، ويوتو ناغاموتو مدافع غلطة سراي التركي، وشينجي كاغاوا لاعب خط وسط بروسيا دورتموند الألماني. خطة نيشينو المحكمة كانت السبب خلف الأداء المشرف الذي ظهر به «محاربو الساموراي» في المونديال رغم عدم تمكنهم من بلوغ ربع النهائي لأول مرة في تاريخهم. وأوشكت اليابان على تحقيق هذا الإنجاز بعد تقدمها على بلجيكا بهدفين نظيفين قبل 20 دقيقة من نهاية المباراة، إلا أن «الشياطين الحمر» انتفضوا واقتنصوا الفوز في دقائق المباراة الأخيرة. كما نجح منتخب اليابان تحت قيادة نيشينو في كتابة أربعة أرقام قياسية جديدة له على صعيد نهائيات كأس العالم، بدءاً من حصول اليابانيين على أول ركلة جزاء في تاريخهم بكأس العالم، انتقالاً لتسجيل أول هدف من ركلة ركنية في تاريخ مشاركاتهم ببطولات المونديال، وصولاً إلى حسم تأهلهم من دوري المجموعات بالاعتماد على قانون اللعب النظيف، وانتهاءً برقم قياسي جديد على صعيد الأهداف المسجلة.