بقيت الأرجنتين تعاني، وخابت البرازيل مجدداً، وانطفأت حماسة البيرو باكراً، وكافحت الأوروغواي وكولومبيا، لكنهما واجها الإقصاء المرير. هذه هي حال منتخبات أميركا الجنوبية في كأس العالم 2018، حيث دفعت كل منها ثمناً بسبب معيّن، فالأرجنتين مثلاً غرقت بسبب مدربها خورخي سامباولي وخياراته. أما البرازيل التي امتلكت تشكيلة أفضل فلم تكن بعيدة من هذا الإطار حيث أصرّ المدرب تيتي على غابريال جيسوس على سبيل المثال رافضاً إعطاء الفرصة لغيره، فغابت الفعالية المطلوبة في أهم مباراة أمام بلجيكا.الأوروغواي تضررت لسببٍ مشابه هو أن مدربها أوسكار تاباريز استمر باعتماد الأسلوب المكشوف نفسه ولم يبدّل أوراقه إلا عند الضرورة، فكانت السقطة المنطقية أمام فرنسا.
ومن دون شك كان لمنتخبٍ مثل الأرجنتين الفرصة لتدارك مصيره المرير عبر اعتماد مدربٍ يستحق المنصب ويمكنه جعل «الألبيسيليستي» أقوى بكثير، إذ بعد التصفيات الكارثية والتأهل الصعب كان قرار الاستغناء (لو حصل) عن سامباولي مبرراً. في أوروبا دييغو سيموني يحظى بإعجاب الجميع بشخصيته القويّة وبأفكاره التطويرية، حيث أخذ أتلتيكو مدريد الإسباني ليكون أحد أقوياء أوروبا لا إسبانيا فقط. كذلك، هناك ماوريتسيو بوكيتينو مدرب توتنهام هوتسبر الإنكليزي الذي يعدّ أحد أفضل مدربي الدوري الممتاز، فهو على رغم غياب البطولات عنه، دائماً ما يفاجئ الجميع بطريقة لعبه المبتكرة. كما ساهم بشكلٍ أو بآخر في تظهير نجومية أبرز لاعبي إنكلترا حالياً مثل هاري كاين وديللي آلي.
كما لا يمكن إغفال أن الأرجنتين تحتاج مدرباً خَبُر معنى الكرة الأوروبية كسيميوني الذي لمع مع إنتر ميلانو ولاتسيو الإيطاليين وأيضاً مع أتلتيكو، بينما عاش بوكيتينو أجواء البطولات الأوروبية لفترة طويلة مع عدة أندية، منها باريس سان جيرمان الفرنسي واسبانيول الإسباني.
من جهة أخرى، هناك نقطة مهمة يجب التطرّق إليها، وهي الفروقات الكبيرة بين البطولات الأوروبية الوطنية ونظيرتها في أميركا الجنوبية، إذ لا يمكن عدم الاعتراف بتأثير هذا الأمر على المنتخبات وسط تفوّق أندية أوروبا أقله معنوياً على الأندية القادمة من القارة اللاتينية، والدليل القاطع على هذه المقولة ما تعرفه كأس العالم للأندية سنوياً. لكن ما هي علاقة هذه المسألة بفشل منتخبات أميركا الجنوبية؟
تراكم الخبرات وقوة المنافسة التي يكتسبها اللاعب الأوروبي منذ نشأته أعطته أفضلية واضحة


الواقع أن الكلام هنا يتمحور حول نقطة مهمة هي الخبرة، إذ صحيح أن غالبية اللاعبين اللاتينيين ينشطون في أوروبا لكن أقرانهم الأوروبيين يبدأون اكتساب الخبرة هناك قبلهم بحكم نشأتهم الأوروبية، بينما يبدأ اللاعب اللاتيني مشواره في بلاده قبل أن يتحوّل إلى "القارة العجوز". أضف أن بعض المنتخبات اللاتينية ضمّت عدداً لا يستهان به من اللاعبين الذين ينشطون في أندية محلية حيث المنافسة أقل مستوى من نظيرتها في أوروبا، وحتى لو خرج النادي للعب على الساحة القارية.
إذاً هي مسألة تراكم الخبرات التي تؤثر بمكانٍ ما على أداء اللاعبين، وقوة التنافس القاري أيضاً، إذ تختلف الأمور الآن عمّا كان عليه الوضع في الماضي عندما كان فريقاً مثل ساو باولو البرازيلي يجاري أقوى أندية أوروبا في كل مواجهة على كأس «الإنتركونتيننتال».
إذاً الشغف وحده لا يكفي، فهناك أمور أخرى لا تقل أهمية عن الجمهور والروح القتالية، وهو العامل التكتيكي والفني، إذ على سبيل المثال لا الحصر، المنتخب الإنكليزي، على الورق، ليس بالمنتخب الذي كان من ضمن المرشحين للوقوف بين المنتخبات القوية في المربع الذهبي، لكن قدرة اللاعبين على ترجمة أفكار المدرب غاريث ساوثغايت كانت مفصلية، فهم استفادوا من الخبرة التي اكتسبوها في الدوري المحلي الخاص بهم، أي الدوري الإنكليزي لتقديم هذا المستوى، فكما هو معلوم «البريميير ليغ» يعدّ مكاناً لصراع الأدمغة بوجود أفضل المدربين في العالم، وهو ما يترك نضجاً تكتيكياً كبيراً لدى اللاعبين.
عامل آخر تختلف به منتخبات أميركا الجنوبية عن الأوروبية في الوقت الحالي، وهي الثقافة الكروية، إذ لا تزال منتخبات القارة اللاتينية تهوى الهجوم على حساب الدفاع، على رغم كل محاولات المدربين لضبط لاعبيهم، وهو أمر كان بالإمكان لمسه من خلال أداء البرازيل في مواجهة بلجيكا، حيث بدت أنها لم تتعلم من دروس الماضي، وتحديداً من خروجها الكارثي على أرضها في مونديال 2014.
الأكيد أنه لا يمكن الجزم بأنها نهاية المنتخبات اللاتينية، ولو أن الذي يحصل الآن يفرض الاعتراف بابتعادها أكثر عن نظيرتها الأوروبية. ربما هي استراحة محارب لقارة لطالما أمتعت منتخباتها العالم بأدائها وبشغفها باللعبة. قارة أنجبت كبار اللاعبين وأفضلهم في التاريخ برأي الكثيرين. هي تحتاج اليوم بلا شك وفي كل بلد إلى أمثال بيليه ودييغو أرماندو مارادونا ورونالدو ورونالدينيو وغيرهم من النجوم الكبار...
الأيام ستمرّ بسرعة حتى مونديال قطر 2022 حيث تنتظر الشعوب اللاتينية استعادة الابتسامة التي اعتادت ألا تغيب عن وجوهها في أعوامٍ خلت.