العودة الى آخر مونديالين تترك قناعة بأن الجماعية هي أهم من النجم الأوحد. هكذا فازت إسبانيا ثم ألمانيا بكأس العالم، لكن رغم ذلك لم تلتفت دول عدة الى هذه النقطة بل بقيت نوستالجيا النجم المطلق الذي يلعب دور «المخلّص» راسخة في وجدان شعوبها التي تحنّ دائماً الى بطلٍ خارق يفرحها على طريقة الافلام الهوليوودية. ميسي في الأرجنتين ونيمار في البرازيل يتعرضان لضغط رهيب، بينما في فرق أوروبا (الغربية تحديداً) انتهى النجم الأوحد.

لم يعد هناك مكانٌ للنجم الأوحد في عالم الرياضة، إذ حتى في الدوري الاميركي الشمالي للمحترفين في كرة السلة الذي اشتهرت فرقه بضم كلٍّ منها نجماً مطلقاً يقودها الى الانتصارات لم تعد هذه الظاهرة حاضرة. هناك في دوري العمالقة اصبح الحُكم للفريق والروح الجماعية، والدليل أنه رغم الأداء الخارق لنجم كليفلاند كافالييرز ليبرون جيمس في سلسلة مباريات النهائي حيث حمل فريقه على كتفيه، سقط التاج عن رأس «الملك» أمام جماعية غولدن ستايت ووريرز الذي لم يكن عبارة عن ستيفن كوري وكيفن دورانت فقط بل كان هناك ثلّة من اللاعبين الداعمين الذين ساهموا في بقاء اللقب مع فريق «المقاتلين».
هذا الاستعراض هو للدلالة فقط على أن الألعاب الجماعية باتت ثقافتها الحالية مرادفة لاسمها، وكرة القدم إحداها، إذ في حال لم يكن هناك دور مطلق للاعب في تلك الالعاب التي تخاض مبارياتها بخمسة لاعبين، فالأكيد ان هذا الدور ينتفي وجوده في لعبة مثل الفوتبول التي يبلغ عدد لاعبيها أكثر من ضعف ما ذُكر سلفاً. اسبانيا كانت الأمثولة في كأس العالم 2010، وبعدها جاءت المانيا في كأس العالم 2014. صحيح أن المنتخبين ضمّا مواهب عدة، لكن لم يلعب في أحدهما أي لاعب دور البطل. لم يتسلم احدهم الكرة ويسير متخطياً كل من يواجهه، ولم يكن هناك أحد يسجّل الأهداف كلها لوحده أو من دون مساعدة زملائه.
كانت قوة إسبانيا في جماعيتها المطلقة، فسرّ الإسبان كان التمرير فالتمرير ثم التمرير، إضافة الى المساعدة في كل مواجهة ثنائية حيث يُطبق لاعبٌ آخر على الخصم في الحالة الدفاعية. أما ألمانيا فهي معروفة بأنها منتخب مجموعة، إذ حتى الهداف التاريخي للمونديالات ميروسلاف كلوزه لم يكن له دور سوى اللعب لمصلحة المجموعة فكانت النتيجة المثالية. كل هذا في وقتٍ كان ما زال يترقب فيه العالم شيئاً آخر: ليونيل ميسي. هذا الاسم هو ربما أكثر ما ذُكر على ألسنة متابعي الكرة في آخر مونديالين، فالكل رسم قصصاً اسطورية عنه قبل كل مونديال. كما رسموا لحظات ذهبية تبيّن أنها خرافية للاعبٍ حلم بأن يكون على صورة ملهمه دييغو ارماندو مارادونا، فسار على خطاه وقاد بلاد الفضة إلى مجدٍ ذهبي. لكن النتيجة كانت تبخّر كل قصة وكل حلم، من دون أن تسقط هذه الفكرة من أذهان الأرجنتينيين وغيرهم من شعوب تلك الدول التي تأهلت منتخباتها الى نهائيات كأس العالم 2018. وبين الحنين الى الماضي وواقع الحاضر تبرز أسبابٌ عدة لهذه المسألة التي تحرّك الشعوب وتُنصّب لها رموزاً تاريخيين. ولعل أبرز هذه الأسباب هي تلك النواحي العاطفية التي لطالما اشتهر بها سكان القارة اللاتينية.
هي مسألة عاطفية نجدها عادةً على نطاقٍ واسعٍ لدى الشعوب اللاتينية والعربية الباحثة دائماً عن أبطالٍ أسطوريين

انظروا الى البرازيليين في مونديال 2014: هم بكوا فرحاً، وبكوا حزناً، وبكوا حتى عند عزف النشيد الوطني!
منتخب «السيليساو» سقط عاطفياً قبل أن يُسحق على يدي الألمان في تلك المباراة التي لا تنسى. فعلاً البرازيليون عجزوا عن تخطي تأثرهم العاطفي بضغط استضافة بلادهم للحدث العالمي، فتأثروا نفسياً، في وقتٍ كان كل واحدٍ منهم ينتظر أن يخلع أحد زملائه ثوبه ويكشف عن صورة ملكٍ (يحاول التصرف كبورجوازي دائماً) اسمه بيليه. أصيب نيمار بضربة قاسية على ظهره من قبل المدافع الكولومبي خوان زونيغا، فبكى ألماً وبكى معه البرازيليون كلهم. اختفى الرقم 10 من الملعب، ولم يعد أحدٌ يرى صورة بطلٍ رغم كل المعنويات التي حاول قليلون ضخّها في نفوس «راقصي السامبا» في بلاد أعلنت الاستسلام حتى قبل أن تدخل لمواجهة الالمان...
اليوم عادت البرازيل للحديث عن «عودة المنقذ»، فقصة الإصابة القوية لنيمار تُلهم كثيرين للحديث عن اسطورة ستكتب: بطل يمرض لكن لا يموت، فيعود ليرفع الكأس الذهبية الغالية على قلوب البرازيليين. هو حلمٌ يشبه ذاك الحلم الذي كتب عنه الأرجنتينيون من دون أن ينجحوا في ترجمته الى واقعٍ. هم يرون في ميسي البطل الخارق الذي تقمّص مارادونا منذ ولادته. تحكي مع أي أرجنتيني محبٍّ للكرة فيعطيك إجابة واحدة: «ليو سيحمل إلينا كأس العالم لا محالة». حتى الآن، أثبتت التجربة بعد أول مبارتين، أن «ليو» ــ الذي احتفل بعيد ميلاده الواحد والثلاثين أمس ــ تعرض لضغوط كبيرة، كانت آثارها سلبية. ماذا سيفعل ميسي لوحده؟ لا يمكنه أن يفعل شيئاً. هو عاش هذه التجربة في ثلاثة مونديالات متتالية، ولا شك في أنه خرج بقناعة ضمنية تقول: «لا يمكنني أن أهزم الالمان لوحدي، بل أحتاج الى رجالٍ لا يؤمنون بي فقط كمخلصٍ بل يقاتلون من أجلي ولمساعدتي». فعلاً لقد رسم الأرجنتينيون «ليو» بصورة «المخلّص المختار»، وأسموه «ابن الله» أي ابن مارادونا الذي شيّدوا الكنائس له وعشقوه حتى العبادة. كل هذا وضع ضغطاً على ميسي وأفشل مساعيه لحصد ولو لقبٍ واحد بقميص «الألبيسيليستي»، وهو الأمر الذي ينقصه حتى الآن في مسيرته، التي يتفق كثيرون على أنها ستكون الأعظم للاعبٍ عبر التاريخ في حال رفع الكأس المونديالية. ونتائج المباراتين الأوليين من الدور الأول، تثبت أن نيمار «نجا» من الانتقادات، وإن طالته على نحوٍ محدود ــ لوجود لاعبين إلى جانبه يستطيعون صناعة الفارق، مثل كوتينيو من برشلونة ودوغلاس كوستا من يوفنتوس. أما ميسي، فيجد نفسه وحيداً دائماً.
لكن هناك ايضاً فئة عاطفية اخرى، ربما نجدها على نطاقٍ أوسع في العالم العربي، حيث البحث دائماً عن بطلٍ يلغي عقدة النقص الموجودة لدى الكثيرين في ما خصّ حظوظ المنتخبات العربية في مواجهة نظيرتها العالمية. لذا كان «البكاء» على النجم المصري محمد صلاح كبيراً يوم إصابته في نهائي دوري الأبطال، فمن دونه لن يكون لمصر أي حظوظ برأي الكثيرين. هو «الفرعون» الذي لا يقهر في نظر البعض، والرجل القادم بلباس «سوبرمان» لإنهاء أحزان المصريين الذين عاشوا على أمجاد تأهلٍ مونديالي أخير كان منذ 28 عاماً خلت، قبل ان يظهر «أبو صلاح» ويبدّل الصورة كلهّا. باختصار، هي مسألة عاطفية نجدها عادةً على نطاقٍ واسعٍ لدى الشعوب الفقيرة التي اعتاد غالبيتها أصلاً على النظر الى الديكتاتور الموجود في بلادها على أنه الحامي والمنقذ وسبب فرحتها وبقاء حياتها. هي شعوب تبحث دائماً عن بطلٍ خارق وجبّار يجلب اليها فرحة تفتقد اليها في جوانب عدة من حياتها. كما هي شعوب تعشق وطنها بكل ما للكلمة من معنى، فتتعلق بعلم بلادها وبكل من تراه يرفعه عالياً. ولكن، ورغم كل شيء، «المخلَّص» ليس خرافة ــ تحديداً ــ في كرة القدم. ومثلما حول «عالم الشمال» كرة القدم إلى صناعة ضدّ الشغف، من واجب ميسي غداً أن يعيد الاعتبار للشعوب، التي تملك وحدها حق الاحتفال.