شخصية القائد، غالباً ما يتم بناؤها وتطويرها. هذه قاعدة ثابتة ــ تقريباً ــ عبر التاريخ. قديماً كانت صورة القائد تقتصر بحفرها على العملات لحفظها في ذاكرة الشعوب، أو عبر بناء التماثيل بطريقة تعبّر عن عظمة هذا القائد أو ذاك. حديثاً بات الوضع تحت سيطرة وسائل الاعلام. ومنذ «تدرّج» فلاديمير بوتين في سلّم القيادة، بنى لنفسه صورة القائد المثالية. لكنها صورة «ملتبسة»، وليست ساطعة وواضحة كصورة ستالين أو لينين، أو أي عملاق من ذلك الحجم الرهيب. برأي كثيرين، أسهم الشعب الروسي نفسه في بناء صورة بوتين، لأنه توّاق إلى زعيم يعيد أمجاداً بدّدها سقوط الاتحاد السوفياتي. صورة بنيت ضدّ «الغرب» الذي عمل ويعمل على لصق قناع أسود بحاكم روسيا كائناً من كان. بوتين يطل مجدداً، هذه المرة من نافذة أكبر حدث رياضي في العالمشخصية بوتين المركّبة، اختارتها مجلة «تايم» الأميركية في 2007 لتكون «شخصية العام» على غلاف صفحتها. اعتبرته من القوى التي تملك التأثير الأقوى على الأحداث، سواء سلباً أو إيجاباً. وهو تقييم على «مزاج» التايم ومزاج أميركا، وقبل ذلك، تقييم يسبق الحقبة «الترامبية» التي بيّنت وجهاً جديداً وساطعاً لأميركا. عنونت «تايم» مقالها بـ«ولادة قيصر»، وجاء في المقال: «لا أحد ولد مع نظرات كتلك التي لدى بوتين: العينان الزرقاوان الباهتتان، خالية من المشاعر، إنها إيماءات شخص يعرف جيداً أنّ السلطة يمكن أن تتحقق بقمع الاحتياجات العادية. بنظرات تقول «أنا المسؤول». هل ستقول «تايم» الكلام نفسه عن ترامب؟ نعرف الإجابة. ولكنها الدعاية. وشتان ما بين بوتين القوي، وترامب المهرّج.

صورة «غربية» للرئيس الروسي

لم يرسل أي بريد إلكتروني في حياته(أرشيف)
يحبه بعضهم، ويكرهه بعضهم. ولا يملك بعضهم الآخر موقفاً واضحاً تجاه هذا الرئيس. الحديث عن فلاديمير بوتين كان وما زال يشغل العديد من النقاشات السياسية بين الصحافيين الروس وغيرهم. في الواقع، خلق النظام الروسي ماكينة إعلامية ضخمة، تتضمّن محطات تلفزيونية موجّهة إلى الخارج، وآلاف الحسابات بكل اللغات على مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك لنشر الخطابات والتصريحات والصور ومقاطع الفيديو التي تظهر بوتين زعيماً قوياً، وإمبراطوراً يهدد الغرب، ويقهر الإرهاب. والغرب «بلع الطُعم». مثلاً، تؤكد الخبيرة الألمانية في لغة الجسد مونيكا ماتشينغ، أن تحليل خطوات بوتين أثناء السير، يثبت أن «هناك قدراً كبيراً من التمثيل فيها، وتضيف أنه يتعمّد أن ينفخ نفسه كي يوحي بالقوة. يملك رجفة خفيفة في الكتف الأيسر تثبت أنه يريد أن يتحرك بشكل أكبر لكنه مجبر على الثبات كي يطبّق ما يوصف فيه». أما الصحافي في مجلة تايم الأميركية، ادي إغناثيوس، فيذكر في معرض حديثه عن شخصية بوتين الملفتة، أنه «عند وصولك إلى بوابة «dacha» الكلاسيكية الجديدة، عليك أن تترك سيارتك في الخارج وتستقل إحدى سيارات الكرملن التي تمر ببطء عبر غابة صامتة من أشجار التنوب الثلجية. يحذرك المساعدون من أن تتوه، وألا تلفت القناصة المتمركزين في أماكن مخفاة حول المجمع. المكان الذي يعمل فيه بوتين». بالنسبة إلى الأميركي، يبدو هذا غريباً.
يدرك بوتين أهمية الصورة للتقرّب من شعبه ودخول كل بيت أسوة بمعظم الزعماء

في الغرب، هناك تصورات عن المدينة وناطحات السحاب وترامب تاور وما شابه. لكن بوتين يعيش مع زوجته واثنتين من بناته العشرينيات في قصر في عمق الغابة. الغرف تبدو واسعة، أعيد بنائها حديثاً ومعظمها فارغ. حسب اغناثيوس، عندما تدخل إلى مكتبه الواسع والمتقشف، ستجد أقوى رجال روسيا: رئيس موظفي بوتين، «الداعم لأيديولوجيته» ورئيس البرلمان، وجميعهم يرتدون بدلات باهظة الثمن ويحملون حقائب سوداء أنيقة. يعطينا بوتين، الذي نادراً ما يلتقي بالصحافة الأجنبية، 3 ساعات ونصف ساعة من وقته، أولاً في مقابلة رسمية في مكتبه ثم في الطابق العلوي أثناء تناول العشاء. وهذه وجهة نظر أميركية خالصة من دون أي تدخل. يكشف بوتين على مضض عن بعض التفاصيل الشخصية للصحافي الأميركي خلال تناوله الطعام بطريقة متقطعة: إنه يرتاح، كما يقول، بالاستماع إلى الملحنين الكلاسيكيين مثل برامس وموزارت وتشايكوفسكي، وأغنية «البيتلز» المفضلة لديه هي بالأمس. لم يرسل أي بريد إلكتروني في حياته. وعلى الرغم من أنه نشأ في بلد كان شيوعياً، إلا أنه مؤمن، وغالباً ما يقرأ من الإنجيل الذي يحتفظ به على متن طائرة الدولة الخاصة. ذكر في معرض حديثه أنه غير صبور إلى درجة الوقاحة، وهو يسيطر تماماً على جمله في الرسائل التي يحاول إرسالها الى المتلقي. يعطي فلاديمير بوتين انطباعاً أوّلياً للغربيين عن أنه الرجل القوي الثابت. يتحرك بصلابة ومرونة. هو نموذج للرجل الروسي على نحوٍ لا لبس فيه، مع ملامح الوجه العميقة وتلك العيون الخارقة. لا يبذل أي جهد للتعبير عن ذاته.

ملك كل الرياضات

قبل أشهر ظهر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (أرشيف)

بعيداً عن المحاولات الغربية لتأطير بوتين على مقاييس غربية، فعندما تبحث عنه على شبكة الانترنت، ستظهر أمامك صورٌ، تعبّر عنه بأنه ملك كل الرياضات، أو بالأحرى رجل كل المهمات. يُجيد رجل الاستخبارات السابق مهارات عدّة. يلاعب الدببة، ويصطاد النمور. يجوب السماء مع طيور اللقلق مستخدماً أجنحة صناعية. يغوص مع الدلافين، ويركض في الغابة. والكثير من كل شيء. في إحدى المرات كان بوتين يقضي عطلته في جزء بعيد من جمهورية «توفا» الروسية الواقعة جنوب سيبيريا مع رئيس وزرائه ميدفيديف، ووزير الدفاع سيرغي شويغو. وقضوا هناك ما يقارب يوماً كاملاً وهم يصطادون الأسماك. فجأة، وخلال 3 دقائق، تمكن بوتين من سحب سمكة الكراكي التي تزن 21 كلغ. قيل عنها إنها أكبر سمكة كراكي تم اصطيادها حتى الآن، قام بسحبها بسنارته من البحر وقاموا بشيّها وأكلها فوراً. صورة أسطورية طبعاً. لكن، قوّة ولياقة لاعب الجودو السابق لا تقلل من وزن ذكائه. هو في الوقت الذي يُجيد فيه امتطاء الخيول كفارس، يلعب الشطرنج. هذه الصفات تقود تلقائياً إلى تكوين صورة القائد، التي يسعى إلى بنائها وتتلاقى مع رغبة جماهيرية عند الروس، توّاقة إلى هذه الصورة.
يدرك بوتين أهمية الصورة للتقرّب من شعبه ودخول كل بيت أسوة بمعظم الزعماء. لذا اعتمد على الإعلام وسيلةً لمشاركة نشاطاته الرياضية بعيداً عن لقاءاته السياسية. كما أنّ بناء هذه الصورة لا يمكن فصله عن الظروف السياسية التي رافقت وصول بوتين إلى الحُكم.
قبل أشهر، ظهر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وهو يداعب الكرة مع رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم جياني إنفانتينو، احتفالاً باقتراب انطلاق بطولة كأس العالم في روسيا. لفتة أظهرت تعلّق بوتين بالرياضة. من المعروف لدى الروس تشجيع بوتين على أهمية اللياقة البدنية بين المواطنين، وكذلك تعزيزه للرياضات المختلفة، كالتزلج وركوب الدراجات الهوائية وصيد الأسماك. يملك بوتين خبرة رياضية كبيرة، فهو من محترفي رياضات الدفاع عن النفس، وبدأ تدريبه على فن السامبو في مرحلة المراهقة (فن من فنون القتال العسكرية الروسية). لاحقاً تحول إلى ممارسة الجودو، والكاراتيه، وفي لينينغراد وسان بطرسبرغ شارك في العديد من مسابقات السامبو والجودو وفاز.
حصد الرئيس الروسي الحزام الأسود من الدرجة الثامنة في رياضة «التايكواندو»، متفوّقاً على تشاك نوريس، وهو فنان قتالي ومتخصص في الأفلام القتالية، ولم يتوقف بوتين عند الحزام الأسود من الدرجة الثامنة، بل حاز وكُرّم بالحزام من الدرجة التاسعة من قبل رئيس اتحاد التايكواندو العالمي خلال زيارته لكوريا الجنوبية. وصرّح بوتين بعد هذا الفوز: «أنا لا أعتقد بأنني أستحق هذا الحزام، ولكن دعونا نعتبر هذا الأمر حملة لتعميم تعليم هذا الفن القتالي الجميل في روسيا، التي ستبذل قصارى جهدها لزيادة شعبية هذه الرياضة القتالية بين سكانها».

أخرجوا الأمور التافهة من رأسي!
(أرشيف)

عام 2010 أجرى بوتين اختبار قيادة لسيارة الفورمولا واحد «رينو» في مسار سباق لينينغراد، وبلغ السرعة القصوى المقدّرة بـ240 كلم في الساعة. كان يرتدي خوذة صفراء عليها العلم الروسي مع الرمز الوطني الروسي، وهو النسر ذو الرأسين. وفي إحدى المرات، قام بتجربة طائرة رمي قنابل روسية، كما قاد سيارات «جيب» عسكرية ذات أربع عجلات، وأيضاً قاد الدراجات مع «عصابات» الدراجات النارية، وكانت دراجته من نوع «هارلي ديفدسون». في 2017 كشف فيلم وثائقي بعنوان «مقابلة بوتين» أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتبع برنامجاً للتمارين الرياضية وصف بأنه «جنوني»، يتضمن إطلاق النار على النمور، عناق الدببة القطبية، وركوب الخيل. وأطلع الرئيس الروسي مخرج الفيلم الأميركي الشهير أوليفر ستون على أنه يعمل سبعة أيام في الأسبوع، وأن من الطبيعي بالنسبة إليه أن يذهب إلى صالة الألعاب الرياضية كل صباح، ثم يمارس السباحة. «مقابلة بوتين»، هو فيلم وثائقي من أربع ساعات تم تصويره بين عامي 2015 و2017، بثّ على شاشة التلفزيون في الولايات المتحدة، وفق صحيفة «كوارتز» الأميركية. وخلافاً للتقارير السابقة، التي ذكرت أن دورات السباحة هذه هي التي يقوم فيها بوتين بـ«التفكير في الأمور المهمة التي يجب أن يقوم بها من أجل روسيا»، نفى الزعيم الروسي قيامه بالتخطيط لأي أمور أثناء وجوده في المياه، وقال: «لا، كل الأمور التافهة أخرجها من رأسي». في عامه الستين، بدأ بوتين، بلعب رياضة الهوكي على الجليد وظهر في مقابلة صحافية خاصة، نشرت العام الماضي، مرتدياً طقم هوكي كاملاً قبل أن يندفع إلى الحلبة ليسجل ستة أهداف في مباراة استعراضية جنباً إلى جنب مع الرياضيين السابقين.
وبعد كل هذا، لم يكتف. استقبل بوتين نجوم الساحرة المستديرة خلال قرعة كأس العالم، والتي أقيمت في الكرملين، في شهر كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي. كان ضمن أبرز الحضور بيليه، مارادونا، رونالدو والمصري حسام حسن. أكد بوتين أثناء القرعة أن اللاعبين معروفون في روسيا تماماً، وأنهم يعدّون المثال للاعبي كرة القدم. أعرب عن ثقته بأن المشجعين ستكون لديهم انطباعات لا تنسى من كأس العالم في روسيا. روسيا التي يريد بوتين أن يراها العالم عبر عينيه هو وحده!

  • بوتين يقود بسرعة تصل إلى 240 كم / ساعة