باريس ــ بلجيكا؛ ساعة ونصف ساعة تقريباً تفصل بين انطلاق ركاب قطار "تاليس" من "محطة الشمال" في العاصمة الفرنسية، وبين وصولهم إلى العاصمة البلجيكية، بعد توقف لوقت قصير في مدينة الشمال الفرنسي، ليل. رحلة عبور لحدود لا يمكن اقتفاء أثرها، فتُدهِش من يقوم بها للمرة الأولى، وخصوصاً إن كان يأتي من مدينة مشرقية، وقد سبق له أن عرف عناء عبور حدود دول المشرق العربي.
هو القطار نفسه الذي شهد في شهر آب الماضي عملية أيوب الخزاني الإرهابية. وهي الحدود البرية نفسها التي عبرها قبل أسابيع المشتبه فيه الأول في اعتداءات باريس، صلاح عبد السلام، من دون أن تتعرف إليه الأجهزة الأمنية. وبين هاتين العاصمتين أيضاً، تنقّل خلال الفترة الماضية "جهاديو" تنظيم "داعش"، الأوروبيون، فنفذوا أكثر من عملية إرهابية.

"العدو اختارنا"

عقب اعتداءات بروكسل الأخيرة، تسارعت التصريحات الأوروبية والغربية لتدعو إلى "الوحدة" إثر استهداف المدينة الأوروبية الرمز، "قلب أوروبا" و"عاصمة اتحادنا". ومثّل الاعتداء الإرهابي، وفق تصريحات المسؤولين الأوروبيين والغربيين، "هجوماً على قيمنا ومجتمعاتنا المنفتحة". لكن يمكن القول إنّ اللافت في خضم تلك التصريحات كان إعلان رئيس الوزراء الفرنسي، مانويل فالس: "نحن في حرب".
قد تحيل الأحاديث عن العدو إلى فترة ما بين الحربين العالميتين

فعلياً، لقد كرر فالس ما سبق أن قاله عقب اعتداءات باريس نهاية العام الماضي، وما كان قد أعلنه بدوره الرئيس الفرنسي، فرنسوا هولاند، في كلمته أمام البرلمان المنعقد بمجلسيه استثنائياً في قصر فرساي: "إنّ فرنسا في حرب". لا يمكن توصيف حديث أكبر مسؤولين فرنسيين بأنه إعلان للحرب بصورة رسمية، بل هو يندرج في إطار الموقف السياسي. لكن يبقى السؤال: من هو العدو لتكون الحرب ضده؟ هل مواجهة شبكات تعمل لمصلحة تنظيم "داعش" تندرج في سياق حرب؟
"أعتقد أن مصطلح حرب ليس مناسباً. يجب أن نواجه اعتداءات تصعب السيطرة عليها، لكنها ليست حرباً"، يقول أستاذ العلوم السياسية في معهد باريس للعلوم السياسية، غييوم دوفان، في حديث إلى "الأخبار". ويضيف أنّ "تكرار مسؤولين سياسيين باستمرار أننا في حالة حرب، ينتج، من وجهة نظري، مناخاً تصعيدياً غير مناسب لحل المشاكل، بل على العكس فهو يخلق التوجس والقلق لدى الناس، ولا تكون له في نهاية المطاف، كآثار جانبية، إلا تضخيم ردات الفعل المتشنجة... وربما أيضاً (تلك) المعادية للأجانب، وبالتالي تضخيم الأصوات الانتخابية المتطرفة لليمين أو لمختلف التيارات الشعبوية".
وتتقاطع الإعلانات السياسية لهولاند وفالس بشأن "الحرب"، مع آراء يتداولها مفكرون فرنسيون، من بينهم على سبيل المثال آلان فينكيلكروت، الذي يعتبر أنّ "فرنسا تتفكك"، وأنّ لأوروبا "أعداء" في الداخل، في إشارة إلى "الإسلام الراديكالي". ويسعى هذا المفكر السجالي إلى دحض "الأوهام التي اعتقدنا بها"، فيما يستعيد في إحدى مقابلاته المفكر الألماني الكبير، جوليان فروند، ليقول: "لسنا نحن من يختار العدو، بل هو من يختارنا".
في مقابل ذلك، هناك رأي آخر، يعبّر عنه غييوم دوفان خلال حديثه إلى "الأخبار"، ويقول إنه "لا توجد حرب ضد أولئك الذين يمكن أن يكونوا قد قاموا بتلك الهجمات والذين ينتمون إلى هذه المجتمعات، سواء الفرنسية أو البلجيكية"، مشدداً على أنه لا يجب الدخول في مسار "تصعيد العنف الذي من شأنه أن يؤدي إلى حرب أهلية، إذ هذه هي بالضبط استراتيجية التوتر التي تسعى إلى إحداثها تلك التفجيرات الإرهابية".
ربما من شأن التطورات المقبلة أن تحدد القدرة على ضبط "مسار العنف"، بيد أنّ الأحاديث عن "الحرب" الداخلية وعن "العدو الداخلي" قد تحيل إلى الفترة التي سادت في أوروبا ما بين الحربين العالميتين، وهي حقبة أطلق عليها مؤرخون تسمية "الحرب الأهلية في أوروبا". أبرز أولئك المؤرخين، هما أرنست نولته، وإينزو ترافيرسو، الذي ينقل عن القامة الفكرية المتميزة خلال القرن العشرين، كارل شميت، قوله إنّ هناك "شيئاً فظيعاً في الحرب الأهلية... (لأنها) تحدث ضمن وحدة سياسية مشتركة، أي في حيز واحد مع العدو، وضمن النظام القانوني نفسه"، وهو تعريف لمعنى "العدو الداخلي".

أدوار في "إنتاج العدو"

"العدو" هنا ليس إلا "الإسلام الراديكالي" الذي انتشر ونما في أوروبا، لا بل هو "السلفية"، وفق مانويل فالس، الذي قال قبل أيام: "قمنا بغض النظر، في كل مكان وفي فرنسا أيضاً، عن انتشار الأفكار المتطرفة للسلفية". يعترف رئيس الوزراء الفرنسي بهذا الأمر، في وقت سبق فيه للعديد من الباحثين الأوروبيين أن طرحوا أسئلة جدية، وخصوصاً حول بناء المساجد الممولة سعودياً وخليجياً في العواصم الأوروبية، وإرسال الدعاة إليها، وهو الأمر الذي بدأ منذ سبعينيات القرن الماضي.
كذلك، يخفي اللجوء إلى تصنيف "الأعداء الداخليين" في الخطاب السياسي، حقيقة خارجية. إذ إنّ باريس ضالعة في عدد من التدخلات العسكرية الخارجية، وهناك عوامل موضوعية تفسّر ما يصفه أستاذ العلوم الاجتماعية الفرنسي ــ الإيراني، فرهاد خسروخافر، في مقالة نشرها قبل يومين، بإظهار "إرهابيين لارتدادات مناهضة لفرنسا، هي على ارتباط بأصولهم"، في إشارة إلى "المستعمرات القديمة في المغرب والجزائر"، فضلاً عن واقع أنّ بروكسل، ذات الرمزية الأوروبية الكبيرة، بدت في الأيام الماضية ضحية السياسات الخارجية لبعض الدول الأوروبية في الشرق الأوسط، بما يشمل شمال أفريقيا ومنطقة الساحل.
ومما قد يزيد من حدة المناخات السائدة حالياً، أنها تتغذى بفعل التحديات التي يواجهها الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً تلك التي فرضتها "أزمة اللاجئين". ويبدي، غييوم دوفان، اعتقاده بأنّ "مسألة الهجرة هي تحد كبير لوحدة أوروبا، أي وحدة هذا البناء الإقليمي الذي كان يرتكز منذ البداية على مجموعة من القيم... وهي تضع بالفعل التضامن (الأوروبي) تحت الاختبار، وهي تحدّ يختبر أيضاً مستقبل التنمية الاقتصادية، وانفتاح الاتحاد الأوروبي على العالم".
أحد الكتاب الصحافيين الفرنسيين، قال قبل يومين: "بالنسبة إلى الديموقراطيات الأوروبية، فإنّ أصعب ما يمكن التسليم به هو أنّ الأزمة طويلة، في ظل ضغوط من طرفين: الإرهابيين والأحزاب الاحتجاجية... ليس أكيداً أن تصمد جميع الديموقراطيات". فهل تعدّل سياسات صناعة "أعداء الداخل"؟




ثلاثة أبعاد «تبدو حاسمة جداً»

يقول الأستاذ المحاضر في معهد العلوم السياسية في باريس، غييوم دوفان، إنه إزاء التحديات الأمنية الراهنة، "فبالطبع، يجب علينا أن لا نقف مكتوفي الأيدي"، مشيراً إلى أنّ هناك ثلاثة أبعاد "تبدو حاسمة جداً في المأساة التي نعيشها، والاعتداءات التي نتعرض لها".
ويشرح دوفان أنه "على المستوى الوطني، (فإنّ السؤال هو) كيف تنتج مجتمعاتنا أفراداً من هذا النوع؟ بما أن الكثيرين بلجيكيون وفرنسيون. ثانياً، كيف يمكن أننا لا نزال على المستوى الأوروبي بصدد البحث عن سبل أفضل لتنسيق أمننا ومخابراتنا؟"، مؤكداً أنّ "التقدم تم ببطء شديد".
في جانب أخير، يلفت إلى أنه "على المستوى الدولي، من الضروري جداً أن تتضافر الجهود (خصوصاً) لإيجاد أشكال للانتقال والتسوية السياسية في سوريا لأن القصف العسكري ليس حلاً".