استمع الرئيس الصربي السابق، رادوفان كرادزيتش، «بهدوء» إلى حكمٍ بالسجن 40 عاماً. فبعد حوالى عقدين على الحرب في يوغوسلافيا السابقة، أدين زعيم الصرب في البوسنة، أمس، بمذبحة سربرنيتشا التي وقعت عام 1995 وتسع جرائم حرب أخرى، من قبل المحكمة الخاصة في لاهاي، في حكمٍ قابلٍ للطعن.
وأعلن قضاة محكمة الجزاء الدولية ليوغوسلافيا السابقة أن كرادزيتش مذنب بارتكاب إبادة جماعية وبتسع جرائم أخرى ضد الإنسانية وبجرائم حرب خلال حرب البوسنة، إنّما برّئ من تهمة الإبادة الجماعية في سبع بلدات في البوسنة، في ما اعتبر أكثر الأحكام أهميّة في تاريخ أوروبا منذ نورنبرغ.
كرادزيتش الذي ألقي القبض عليه عام 2008، بعد تخفيه لمدّة 13 عاماً تحت هويةٍ مزيّفة في بلغراد، لم ينكر في مناسباتٍ عدّة الجرائم التي حصلت، لكنه لم يعتبر نفسه مسؤولاً مباشراً عنها. ودفاعاً عن نفسه، من سجنه في شفينغن على الساحل الهولندي، أشار الرجل السبعينيّ في إحدى المقابلات النادرة، إلى أنه «كرئيس لم يكن بإمكاني أن أفعل المزيد، ومعركتي الدائمة للحفاظ على السلام، وتجنّب الحرب ومعاناة الجميع بغض النظر عن دينهم، هي جهود تستحقّ الاحترام بدل المحاكمة»، وذلك رغم اعترافه بمقتل مدنيين في سبرينيتشا عام 1995. إلّا أنّه يعتبر أن «في سبرنيتشيا لم يكن بإمكاني فعل المزيد، أنا لا أنكر ما حصل، إلّا أنني أوضح السياق والخلفية التي جرت بها الأمور». وتابع أنه «لم تكن وحدات عسكرية هي التي قامت بتلك الأفعال السيئة، بل كانوا مجموعة عشوائية من الشباب تجمّعوا وقاموا بالجرائم وأخفوها عن قادتهم».
ونتيجةً لتقدّمه في السنّ، فإنّ الحكم الصادر بحقّ كرادزيتش الذي شارك في تأسيس الحزب الديموقراطي الصربي بعد تفكك يوغوسلافيا عام 1990، «لا يغيّر الكثير»، وخصوصاً «في المؤسسات في دولةٍ مثل البوسنة، الأكثر انقساماً والأقلّ فاعليةً في أوروبا»، وفق ما يشير تقرير لصحيفة «ليبيراسيون» الفرنسيّة. ويعود ذلك إلى أنّ «الجمهوريّة الصربية التي أنشأها كرادزيتش وقائده العسكريّ»، كما يشرح التقرير، لم تلغَ، بل تحوّلت إلى جمهورية مستقلّةً في البوسنة والهرسك، بناءً على اتفاقات دايتون عام 1995. كذلك «لن يغيّر هذا الحكم نظرة صرب البوسنة الحاليّة للحرب التي حصلت في التسعينيات». الحكم إذاَ «لن يعالج التصدّعات والانقسامات الإثنية في البوسنة»، بدليلٍ أنّ الرئيس الحاليّ للحزب الإشتراكي الديموقراطي في الجمهورية الصربية، ميلوراد دوديك، افتتح هذا الأسبوع سكناً للطلّاب باسم رادوفان كرادزيتش تكريماً له وبحضور زوجته وابنته، كما يشير تقرير في صحيفة «الغارديان».
ويرى دوديك، في دوريّة «السياسة الدولية» في عددها الصادر هذا الشتاء، أنّ «جيش الجمهورية الصربية في البوسنة أجرى حرباً عادلة ونزيهة إلى أقصى حدٍّ ممكن». ويرى أنّ «الانحياز واضح في المحكمة»، في إشارةٍ إلى أنّها حاكمت بشكلٍ أساسيّ الصرب، واصفاً الأمر «بالعدالة الانتقائية». وبالفعل فإنّ المحكمة قد حاكمت أكثرية من الصرب، لكنّ الكروات والبوسنيين والكوسوفيين قد أدينوا أيضاً، ويشرح مسؤولو المحكمة السبب بأنّ «أغلب الانتهاكات ارتكبتها أساساً القوات الصربية».
كذلك، يشير كاتب سيرة حياة الرئيس الجمهورية الصربية السابق، روبرت دونيا، لصحيفة «الغارديان» البريطانية، إلى أنّ كرادزيتش على الأرجح سيتعامل مع الحكم بطريقةٍ «مسرحيّة» كما فعل «طوال الحرب». ويضيف دونيا أن «كرادزيتش سيعامل نفسه كشهيد بسبيل الشعب الصربيّ وأنه ضحى لأجلهم».
لا شكّ أن الحكم الذي انتظر لخمسِ سنوات، وهي مدّة محاكمة الرئيس الصربي السابق المولود عام 1945 في قريةٍ صغيرة في الجبل الأسود، انتظر بحفاوةٍ في البوسنة، ورغم أنه «لن يغيّر شيئاً» من واقع الأمور، إلّا أنّه «قد يعطي إحساساً بالعدالة لأهل الضحايا»، كما يرى تقرير «الغارديان».
وتتزامن محاكمةُ كرادزيتش مع مرور 17 عاماً على عمليّة «ملاك الرحمة» لـ«حلف شمال الأطلسي» في يوغوسلافيا السابقة التي كانت تسعى إلى إجبار الصرب على الانسحاب من إقليم كوسوفو، ولكن من دون قرار من مجلس الأمن الدوليّ. وفي إحياءٍ للذكرى أمس، أشار رئيس الحكومة الصربية، ألكسندر فوفيتش، إلى أنه «لن يكون هناك المزيد من الأعذار للموت والقبور». أمّا الرئيس الصربيّ، توميسلاف نيكوليتش، فقال إنه «سيزور دائماً الأماكن التي ضربها الناتو الذي لم يميّز ضحاياه»، مضيفاً أن «هذه الأمكنة موجودة كذكرى تحثّنا على عدم التحوّل إلى أمةٍ مختلفة وشعبٍ مختلف».
(الأخبار، أ ف ب)