باريس، إسطنبول، أنقرة، بروكسل... أصبحت أوروبا شرقاً وغرباً في مرمى الجهاد الدولي منذ بداية 2015. ليس الإرهاب المتأسلم بجديد عن شمال المتوسط، حيث عرفت عدة عواصم أوروبية هجمات موجعة منذ تسعينيات القرن الماضي، لكنّ تكرار الهجمات ونوعيتها وحدّتها أمر غير مسبوق، وخصوصاً إذا ما اضفنا استهداف الأوروبيين في كل من شمال وغرب أفريقيا، من تونس إلى أبيدجان. هي فترة جديدة في التاريخ إذاً: ما قبل 2015 ليس كما بعده. أوروبا اليوم كما أميركا بعد 11 سبتمبر، لكن فيما كان 11 سبتمبر يوماً، يبدو العدوان على أوروبا دهراً، نفقاً لا ينتهي.
يتساءل المواطن الأوروبي عما يجعله عرضةً لهذا الغول، وخصوصاً شباب ما بعد الحرب الباردة الذي كبر في كنف السلم وأوهام العالم ــ القرية. تتقوقع حكومات أوروبا على نفسها وتعيد حساباتها: ما جدوى إلغاء الحدود إن كانت النتيجة تسلل الإرهابيين من دولة لدولة دون مراقبة؟ يدب الشك بين العواصم وأجهزة الاستخبارات، وتبكي فيديريكا موغيريني المسؤولة عن الشؤون الخارجية والأمن في الإتحاد الأوروبي. أهي القلعة أوروبا، أم بيت العنكبوت؟
يغتنم اليمين المتطرف لوعة العائلات البسيطة ليسقط باللائمة على المهاجرين وللمطالبة بإغلاق الحدود. يجد أبواق الإسلاموفوبيا ضالتهم في هجمات كهذه لسحل "دين محمد" وإسترجاع خطابات القرن التاسع عشر، التي كرست الإستعمار. يقول أنصار الأسد والقذافي إن "بضاعتكم ردت اليكم"، وإن ما يحدث في أوروبا ليس سوى نتيجة مساندتها لثوار سوريا وليبيا وللإسلام السياسي بصفة عامة. يرد معارضو النظام العربي القديم بأن الإرهاب مأتاه قمع الأنظمة العربية لمواطنيهم، ما ولد حقداً فإرهاباً عابراً للقارات. وتطول قائمة اللوم المتبادل. 
الكل يلوم الآخر. وكأن المرآة نافذة على الجار لا صورتنا. غير أننا جميعاً مذنبون، ونرفض مصارحة أنفسنا. ساندت أميركا وبلدان الخليج الجهاد الدولي في الثمانينيات، ولعبت بخيوطه الجزائر والسودان في التسعينيات. داعبته سوريا وإيران في سنوات الألفين. غضت دول الغرب والإسلام السياسي عنه الطرف بعد 2011. أغمض النظام في سوريا عينيه عن ضربات "داعش" للحركات المسلحة المعارضة لوجوده، وهكذا فعلت قوات الجنرال خليفة حفتر في ليبيا. تشتكي المعارضة السورية من مقتل المدنيين في كل مرة تقصف فيها الطائرات الروسية مناطق سيطرة "داعش"، فيما تسمح قوات "فجر ليبيا" بمرور مسلحي "القاعدة" و"داعش" عندما يكون هدفهم عدوها...
وما فتئ الجنين المتعدد الأنساب يكبر وينقلب على من رعاه. فهل يمكن لأمم العالم أن تتحد في مواجهته اليوم، وهو يهدد لا فقط البلدان الفقيرة التي يحتقرها النظام العالمي، ولكن هذا النظام بأسره، إبتداءً بأوروبا الغنية؟
يصعب هذا. فالعالم القرية (كما رسمته الأسطورة المعاصرة) ليس سوى مصالح مختفلة ومتضادة أحياناً. لا تعترف العلاقات الدولية بالمبادئ ولا ترى الدول والمجموعات أبعد من مجالها الحيوي إلا ما كان فيه مصلحة لها. سوف يتغذى الجهاد العالمي من هذه الخلافات ويواصل تقدمه، واكتماله، مستغلاً انقسامات الدول وضعف الأمم المتحدة، مستعملاً تقدم العلم لتحطيم العالم. 
*باحث تونسي