كان لافتاً ما أدلى به الخبير الفرنسي في مكافحة الإرهاب، المقيم في بلجيكا، كلود مونيكه، خلال تعليق له على إمكانية حدوث اعتداءات جديدة في أوروبا كالتي حصلت في باريس في 2015، بالقول إن احتمال وقوع اعتداءات أخرى كبير، بالرغم من الجهد المبذول للحد منها. لكن تصريح الناطق باسم البيت الأبيض عقب توقيف صلاح عبد السلام في 18 آذار الجاري، بأن الأجهزة الأمنية الأميركية تنسق مع السلطات البلجيكية والفرنسية في مجال مكافحة الإرهاب، قد شكل ربما انطباعاً بأن فترة من الهدوء (طويلة نسبياً) ستفصل بيننا وبين أي اعتداء آخر سيحصل، قبل "مفاجأة" يوم أمس في بروكسيل التي تندرج في سياق نوع جديد من الهجمات التي ظهرت في العقدين الأخيرين في أوروبا، وتكثفت بعد اندلاع الحرب في سوريا.
شكلت سلسلة اعتداءات باريس في صيف 1995، وهي جاءت على خلفية موقف فرنسا في الحرب الأهلية الجزائرية وأوقعت 8 قتلى ونحو 200 جريح، نقطة تحول في محرك هذه العمليات في فرنسا، وأوروبا عامة. ففي فترة السبعينيات والثمانينيات كانت الاعتداءات عموماً مرتبطة بقضايا وطنية داخلية، كالصراع مع انفصاليين، في فرنسا وايرلندا أو بريطانيا، أو من صنع مجموعات عقائدية كالفصائل الثورية في إيطاليا، التي اختطفت وقتلت رئيس الوزراء الإيطالي السابق الدو مورو في 1979 مثلاً، أو باقي مجموعات اليسار المتطرف، في ألمانيا خاصة، في عقد السبعينيات الذي عرف "بسنوات الرصاص". إضافة إلى هجمات مرتبطة بصراعات خارجية لديها امتدادات ومصالح وأهداف على الأراضي الأوروبية، كالهجمات الأرمنية على المصالح التركية.
العامل الذي ظهر في التسعينيات، نضج بشكل أكبر في مطلع عقد الألفين

لكن منذ منتصف التسعينيات، طرأ على هذه الاعتداءات عامل جديد هو العامل الخارجي، المرتبط بسياسة الدولة المستهدفة تجاه قضية خارجية، وبكون منفذيها بأغلبهم من المواطنين، أو يعيشون على أراضيها منذ وقت طويل نسبياً.
وقبل هذه الفترة، أي السبعينيات إلى بداية تسعينيات القرن الماضي، كانت ظاهرة الاعتداءات والهجمات ذات المضمون الإيديولوجي أو السياسي ظاهرة قديمة في القارة الأوروبية. فدول كفرنسا، أو إيطاليا، وألمانيا، أو روسيا (بالاعتبار السياسي)، لم تكن يوماً بعيدة عن الأعمال التي كانت توصف في حينه بالإرهابية، والمصطلح فرنسي ظهر للمرة الأولى في القاموس سنة 1794. وإذا استثنينا فترات النزاعات، كالثورات والحروب بين الدول أو الحروب الأهلية، فإنّ النصف الثاني من القرن التاسع عشر الأوروبي حافل بهجمات من هذا النوع، كمحاولات اغتيال نابوليون الثالث أو قيصر روسيا الكسندر الثاني في باريس، أو مجموعة هجمات لعناصر فوضوية في فرنسا، التي وصلت إلى حد إلقاء قنبلة في مجلس النواب، ثم قتل الرئيس كارنو، في 1893 و1894 تباعاً. كذلك عاشت روسيا في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين موجة كبيرة من العمليات الإرهابية التي طاولت رموز السلطة القيصرية من موظفين وإداريين وسياسيين، وصولاً إلى عدد من محاولات الاغتيال ضد القيصر، نجحت واحدة منها بقتل ألكسندر الثاني في 1881.
بالمحصلة، إنّ العامل الجديد الذي ظهر في التسعينيات نضج بشكل أكبر في مطلع عقد الألفين، خاصة بعد سلسلة الاعتداءات في مدريد ولندن، صيف 2004. ومع بداية الحرب في سوريا، وظاهرة التحاق عدد من الأوروبيين بالتنظيمات المسلحة، ومع تراكم العوامل الاقتصادية والاجتماعية المساعدة، وإهمال السلطات لعدد من ظواهر التطرف بحجة شراء السلم الأهلي، شكّل الوضع في مناطق عديدة تسكنها أساساً مجموعات من المهاجرين (بعضهم حديث الهجرة)، أرضية خصبة لإرهاب أوروبي من نوع جديد.
بغض النظر عن إدانة هذه الاعتداءات، والعوامل الداخلية الخاصة بكل دولة والمساعدة في تطور الراديكالية، فالظاهرة تطرح إشكالية أخرى، قوامها قدرة دول الاتحاد الأوروبي، كدول، وكجزء من العالم يتمتع بحالة استقرار كبير منذ ستة عقود، بالمقارنة مع مناطق ملتهبة قريبة منها، أسهمت سياساتها بتعقيد الأوضاع فيها من غزو العراق إلى الموقف من الحرب في سوريا، مروراً بالتدخل في ليبيا، على الحفاظ على هذا الأمن في ظل انخراطها بشكل أو بآخر، وأحياناً مباشرةً في عدد من هذه الصراعات، خاصة مع سياسة خبيثة منذ بدء الأحداث في سوريا، قوامها السماح للعناصر الراديكاليين الراغبين في الالتحاق بالصراع الدائر بالمغادرة بصورة طبيعية بحجة عدم القدرة القانونية على منعها، مع رهان على عدم عودتها، أو إمكانية التعامل مع الأعداد التي تعود إلى دولها الأصلية. وذلك من دون إغفال حالة المرارة التي تعاني منها شرائح من المهاجرين جراء تهميشها اقتصادياً، اجتماعياً، سياسياً، ومعنوياً. وهي حالة تراكمات منذ عقود أدت إلى عدم اندماج شرائح مهمة من المهاجرين في بلدانهم الجديدة، وقابلية البعض للتوجه نحو الجماعات الراديكالية.
من المؤكد أن الحديث الأوروبي عن استقرار تام، وتالياً تلافي هذا النوع من العمليات في المستقبل القريب، هو نوع من الوهم في ظل انخراط بعض دول الاتحاد الأوروبي خصوصاً في سياسات أطلسية تدميرية في الشرق الأوسط، وتتحمل بالتالي جزءاً من المسؤولية في مأساة مستمرة، أين منها عدد ضحايا اعتداءات بروكسيل وقبلها باريس.