أخيراً، بعد أكثر من أربعة أشهر على اعتداءات باريس (13 تشرين الثاني 2015)، أُلقي القبض على المشتبه فيه الأول المتواري، صلاح عبد السلام، في مولينبيك، إحدى ضواحي العاصمة البلجيكية.
وكانت الأخبار عن مداهمات في الحيّ المذكور قد تسارعت في الأسبوعين الأخيرين، حتى الثلاثاء الماضي، حين قتل أحد المشتبه فيهم بالمشاركة في اعتداءات باريس خلال مداهمة للشرطة في نفس الضاحية، وهو الجزائري محمد بلقايد، الذي قدم مساعدة لوجستية للقتلة، تحت اسم وهمي هو سمير بوزيد، وصولاً إلى اعتقال عبد السلام بعد ظهر أمس.
بعيد الهجوم في باريس الذي قضى فيه ما يقارب 140 شخصاً، اتجهت الأنظار إلى بلجيكا، وضواحي بروكسيل تحديداً، كمكان شكّل أرضية ملائمة للتحضير اللوجستي الدقيق لما حصل في باريس (الشبكة البلجيكية)، وقبل ذلك كأرضية خصبة لتجنيد العناصر الجهاديين، منذ ما قبل أحداث العاصمة الفرنسية. وهو ما دفع السلطات الفرنسية إلى زيادة التعاون الأمني مع بروكسيل، وإرسال أحد قدامى جهاز الاستخبارات كخبير في مكافحة الإرهاب.
ما الذي يشكل فعلاً خاصية في مولينبيك يجعل منها عاصمة الإرهاب في أوروبا على حدّ وصف وسائل الإعلام لها، وهي لا يفصل بينها وبين بروكسيل إدارياً إلا قناة مائية؟
تشكّل مولينبيك حالة تكاد تكون فريدة في مشهد الضواحي الأوروبية، نظراً إلى ارتباط عدد كبير من المتورطين بأعمال أرهابية بها، لناحية السكن أو التجنيد. فمنذ ستة اشهر إلى الآن، التحق ما لا يقل عن 85 شخصاً من سكان مولينبيك بصفوق تنظيم "داعش" في سوريا. تركيز كبير يذكّر بمدينة "لونيل" الفرنسية التي التحق عدد كبير من أبنائها بالجماعات المسلحة في سوريا.
وبالعودة إلى الوراء، إلى بداية العقد الماضي، نجد أنّ لمولينبيك حضوراً كبيراً على مستوى الأعمال الموصوفة بالإرهابية، من إيكال مهمة قتل أحمد شاه مسعود إلى شخصين من مولنبيك، إلى اعتداءات القطار في مدريد سنة 2004، الذي راح ضحيته 191 شخصاً، وكان من المتورطين فيها شخصان عائدان من هذه الضاحية البلجيكية، مروراً بسلسلة هجمات، كالهجوم على المتحف اليهودي في بروكسيل في أيار 2004، ومحاولة الاعتداء على القطار "تاليس" الذي يربط أمستردام بباريس في آب 2015، وأخيراً هجمات باريس، التي تبعها مقتل المخطط المفترض للهجمات، عبد الحميد اباعود، الذي كان في سوريا وظهر قبلاً في شريط فيديو وهو يسحل مجموعة جثث وراء سيارته في مكان ما، مرجح أنه في الشمال السوري.
تشكّل مولينبيك حالة تكاد تكون فريدة في مشهد الضواحي الأوروبية

هذه الكثافة في أعداد المتورطين في أعمال عنف قد تعطي عن ضاحية مولينبيك انطباعاً بأنها أكبر ديموغرافياً مما هي عليه في الواقع. أما عملياً، فمولينبيك التي تبلغ مساحتها 7 كلم مربعة تضم 95 ألف شخص، بكثافة سكانية من بين الأعلى أوروبياً (نحو 16099 شخصاً في الكلم المربع الواحد)، إضافة إلى عناصر أخرى تساعد في فهم طبيعة التركيبة البشرية فيها، إذ إن ثلث السكان لا يحملون الجنسية البلجيكية، كمؤشر على الاندماج الاجتماعي بالحد الأدنى، وحداثة الهجرة المكونة للسكان، الذي يتحدر نصفهم من أصول مغاربية، مغربية تحديداً.
يضيء واقع مولينبيك كضاحية ملاصقة للعاصمة البلجيكية على ظاهرة ليست جديدة في عدد من البلدان الأوروبية، خاصة بلجيكا، فرنسا وبريطانيا، كبلدان مستقطبة للهجرة منذ الخمسينيات، وهي ظاهرة التحولات الديموغرافية، وتالياً الثقافية، في عدد من ضواحي المدن الرئيسية. فالمشهد في مولينبيك أقرب إلى مراكش منه إلى بروكسيل. حتى المواطنون من أصول بلجيكية قديمة أصبحوا أقلية، ومعهم الكنائس كمؤشر ثقافي وديموغرافي، بغضّ النظر عن انخفاض نسبة الممارسة الدينية عند المسيحيين في أوروبا، إذ تضم مولينبيك 5 كنائس مقابل 24 مسجداً.
لكن هذه الاعتبارات لا تكفي لتفسير ما يحصل، فمولينبيك ليست الضاحية الوحيدة في أوروبا وفي بلجيكا التي عاشت تحولات من هذا النوع. تُضاف إليها سياسة شراء السلم الاجتماعي التي اتُّبعَت في بلد يعاني مشاكل سياسية مزمنة، اقتضت غضّ النظر عن أمور كثيرة مقابل تلافي أي مواجهة مع ظاهرة الانحراف والراديكالية.
تجلى الأمر بوضوح في عجز الأجهزة البلجيكية عن التنسيق في ما بينها بهدف منع عدد من الأفراد الذين وشى بهم أفراد من عائلاتهم بهدف منعهم من السفر إلى سوريا، وحتى من العودة، واحتمال قيامهم بأعمال تطال المدنيين على أراضيها.
تروي والدة أحد الشبان (18 سنة) كيف أعلمها ابنها بقراره الذهاب إلى سوريا في أوائل عام 2014، وكيف أخبرت الشرطة، لتكتشف بعد يومين أن ابنها قد وصل إلى تركيا بالرغم من علم الشرطة البلجيكية بالأمر، لأنّ القاضي رفض إصدار منع سفر بحقه باعتباره راشداً قانونياً. وأبلغها أحد أصدقائه في سوريا بأنه قُتل في خلال معركة اقتحام مطار دير الزور في شباط 2015.
شكلت هجمات باريس الأخيرة تحولاً كبيراً في جدية مقاربة السلطات الفرنسية لقضايا التهديد الأمني الذي تشكله عودة عناصر إرهابية من سوريا، تُركت تذهب مع الرهان على عدم عودتها. وهي جدية تتجلى بتفعيل التعاون الاستخباري البلجيكي الفرنسي، ومع الأميركيين، خاصة أن المتحدث باسم البيت الأبيض أكد في تصريح، أمس، أن بلاده تساعد بلجيكا وفرنسا على تعزيز أمنهما بعد هجمات باريس، وأن هذا الأمر سيستمر.
لا شك أن هذا التعاون سيخفف من احتمال وقوع اعتداءات جديدة على غرار ما حصل في باريس، لكن دون أن يلغيه على حد تأكيد كلزد مونيكه، خبير مكافحة الإرهاب الفرنسي، المقيم في بروكسيل، الذي يجزم بأن أوروبا ستشهد عدداً من الهجمات التي توازي هجمات باريس في المستقبل.