انتحار فرنسي

  • 0
  • ض
  • ض

منذ الإعلان عن نتائج الدورة الأولى من الانتخابات الإقليميّة الفرنسيّة ليل الأحد، لم تعد فرنسا كما نعرفها، أو نظنّ أننا نعرفها، أو نحبّ أن نعرفها. إنّها «الصدمة»، كما عنونت صباح أمس كلّ من الـ «فيغارو» اليمينيّة والـ «أومانيتيه» الشيوعيّة. تلك الصدمة ينتظرها الفرنسيّون بهلع من ٢٠ عاماً، بل منذ بدأ الرئيس السابق فرنسوا ميتران يلعب بالنار المتطرّفة ليضعف خصمه اليميني، لكنّها اليوم باتت أمراً واقعاً. لقد حقق حزب «الجبهة الوطنيّة» اليميني المتطرّف اختراقاً تاريخيّاً، محتلاً بلوائحه موقع الصدارة في ٦ أقاليم من أصل ١٣، فيما تكبّد «اليسار» الاشتراكي هزيمة شعواء، هي ثمرة سياساته البائسة في الداخل والخارج، وتراجَع إلى المرتبة الدنيا، رغم كل ما تردد عن «صموده»، وحيلة جمع أصوات اليسار الراديكالي والشيوعيين والخضر. في آخر اقتراع شعبي يفصل فرنسا عن الانتخابات الرئاسيّة للعام ٢٠١٧، بدا واضحاً أن ذلك الحزب العنصري، النازي الهوى والمرجعيّات، يمضي برقمه القياسي (ثلث الناخبين) نحو النصر، ويتهيأ للإمساك بالإدارات المحليّة التي تتحكّم بمرافق الحياة اليوميّة، في أكثر من منطقة. لعلّ الجمهوريّة التي ألهمت شرعة حقوق الإنسان، وتتباهى بقيم العقلانيّة والإنسانويّة والتنوير، تقف أمام مفترق طرق قد يعيدها إلى مراحل مظلمة من تاريخها، وينذر بحروب أهليّة وانهيارات. نعم نحن على قاب قوسين من الكابوس الفرنسي. ما كان بالأمس مجرّد مزحة سمجة، يبدو الآن خطراً جديّاً: يمكننا اليوم أن نتصوّر من دون مبالغة، مارين لو بين، زعيمة الجبهة، على أبواب قصر الإليزيه بعد سنتين. مارين لا «محمد بن عبّاس» كما شُبّه لميشال ويلبيك في روايته العنصريّة «خضوع»، إذ قاده خياله الهاذي إلى تصوّر فوز الإسلاميين برئاسة فرنسا في العام ٢٠٢٢. الإسلاموفوبيا التي عبّر عنها ويلبيك، وكثير من «الرجعيين الجدد» الخائفين على «الهويّة المقهورة»، تختصر أحد أسباب صعود اليمين المتطرّف. ولا ينبغي أن نغفل انهيار صدقيّة الطبقة السياسيّة، وتراجع اليسار الشيوعي والنقابات، وتفاقم الأزمات الاقتصاديّة التي ووجهت بمنطق السوق ومصالح رأس المال، ونير الإعمار الأوروبي الذي وضع السيادة الوطنيّة تحت أقدام البيروقراطيين والمصرفيين والتجار… كل ذلك عبّد الطريق أمام تجار الشعبويّة ودعاة الأفضليّة العرقيّة، فإذا بهم الملاذ الأخير لضحايا الفقر والخوف والإقصاء. لكنّ الانتخابات الإقليميّة الفرنسيّة تبقى أولاً هزيمة صارخة للاشتراكيين الذين يتحمّلون المسؤوليّة الأولى والمباشرة في تنامي الورم السرطاني. إن إرسال حاملة الطائرات «شارل ديغول» إلى مياهنا لم ينفع كثيراً الرئيس هولاند، لا عسكرياً عندنا، ولا سياسياً في بيته… كما أن تبني مطالب اليمين المتطرّف مثل إسقاط الجنسيّة لم ينقذ «فرنسوا الصغير» (قياساً إلى خلفه فرنسوا ميتران، وعلى طريقة فيكتور هوغو مع «نابليون الصغير»)… ولا الاستسلام لإغراءات الليبراليّة والترويج لاتفاقات التبادل الحر بين أميركا وأوروبا… ولا الغلو في أطلسيّته وتبعيّته لأميركا، ولا عواطفه الإسرائيليّة الجيّاشة، ولا خضوعه للظلاميّة السعوديّة التي أخلى لملكها شاطئاً كاملاً هذا الصيف، فيما بقي عاجزاً كرمى لعيني الوهابيّة عن إقفال جامع سلفي واحد في فرنسا. «الجمهوريّة» تهتزّ. طبعاً علينا أن ننتظر النتائج النهائيّة للدورة الثانية الأحد المقبل، وإن كان المشهد يرتسم منذ الآن بوضوح. لنرَ ما إذا كان ناخبو القوى الأخرى سيحدّون من الزحف المتطرّف، عبر «العقد الجمهوري» الذي لم ينفع في الماضي، وتجيير الأصوات بين اليمين واليسار لصالح الأوفر حظاً بوجه «الجبهة الوطنيّة». لكن، في كلّ الأحوال، على فرنسوا هولاند ورفاقه في الحزب الاشتراكي الفرنسي، أن يتهيأوا لرحلة طويلة… أين منها عبور الصحراء الذي أعقب عهد فرنسوا ميتران في التسعينيات.

0 تعليق

التعليقات