ليست واقعة سقوط طائرة الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، فوق إحدى المناطق الجبلية الوعرة شمالي البلاد، والتي أسفرت عن وفاته ومعه عدد من كبار المسؤولين، على رأسهم وزير الخارجية، حسين أمير عبد اللهيان، بما يمثّله هؤلاء من قامات كبرى في المعادلة السياسية الإيرانية، ومع ما قد يفرضه رحيلهم من تداعيات على السياستَين الداخلية والخارجية للجمهورية، الحدث الأول من نوعه في تاريخها. فالنظام الإسلامي المنبثق من رحم «الثورة الخمينية»، عام 1979، عايش، منذ ذلك الوقت، سلسلة ممتدّة من «الغيابات المفاجئة» في صفوف القادة البارزين، تمكّن «الهرم القيادي» في كل حلقة منها، لاعتبارات تمليها «المرونة الثورية» بالمعنيَين السياسي والدستوري، من التغلُّب، بصورة لا تخلو من صعوبة، على التحديات التي كان يفرضها رحيل هؤلاء، بدءاً بوقائع «مذبحة 28 حزيران» عام 1981، ومن ثم رحيل القائد المؤسّس الإمام الخميني، مروراً باغتيال قائد «قوة القدس» في الحرس الثوري الإيراني اللواء قاسم سليماني، وصولاً إلى حادثة السقوط المفجع للمروحية الرئاسية. هكذا، كانت تتمّ، عبر مراحل زمنية مختلفة، صيانة الخطّ الاستراتيجي العام، بأقلّ قدْرٍ من الأضرار.
غياب عبد اللهيان: أيّ تأثير؟
سيكون لحدث غياب الوزير المعروف بقربه من سائر دوائر صنع القرار في إيران، ولا سيما المرشد، والبرلمان ذي الغالبية المحافظة، وكذلك قيادات «الحرس الثوري»، تبعاته الإقليمية والدولية، بشكل أو بآخر؛ ولا سيما أنه يأتي على وقع توتّرات إسرائيلية - إيرانية من ناحية، وانفراجات إيرانية - عربية من ناحية أخرى. ومن «العلامات الفارقة» في مسيرة وزير الخارجية الإيراني الراحل، على الصعيد الدولي، نجاح وزارته في تنفيذ جانب كبير من الرؤية التي حملها عهد الرئيس الإيراني الراحل، والقائمة على تعزيز الروابط مع المعسكر الدولي المناهض للولايات المتحدة، وفي طليعته الصين وروسيا، عبر التوصّل إلى اتفاقات استراتيجية بعيدة المدى مع البلدَين، كجزء من استراتيجية «التوجّه شرقاً»، وذلك مع مراعاة اعتبارات «التوازن الدولي»، وعدم إغفال عامل التفاهمات الدبلوماسية في إدارة العلاقات مع واشنطن، والتي شهدت حيوية في الأشهر الأخيرة. ومن الشواهد على ما تقدّم، موافقة الجانب الأميركي، في آب الماضي، على الإفراج عن 6 مليارات دولار من الأصول الإيرانية المجمّدة في كوريا الجنوبية، في مقابل إفراج الجانب الإيراني عن 5 سجناء أميركيين. والجدير ذكره، هنا، أن الدبلوماسي الألمعي، وإنْ نضحت تصريحاته بميل واضح إلى تحميل قوى خارجية، على رأسها الولايات المتحدة، مسؤولية تدهور الأمن في المنطقة، إلا أن نبرة نقده، خلافاً للعديد من وجوه التيار المحافظ، كانت تأتي غالباً هادئة وغير انفعالية.
أما في ملف «المفاوضات النووية» مع مجموعة «4+1» (فرنسا وبريطانيا وألمانيا وروسيا والصين)، فمن المعلوم أن الجهود الدبلوماسية التي قادها وزير الخارجية «الزئبقي»، والذي كان يتبنّى مقاربة أكثر ليونة في هذا الخصوص، من الكثير من أقرانه في وزارة الخارجية، ومن بينهم كبير مفاوضي بلاده، علي باقري كنّي، المعروف بعدم حماسته لـ»الاتفاق النووي»، هي ما جعلت المفاوضات تقترب من «خواتيمها السعيدة»، عند أكثر من محطّة، ولا سيما في الجولتَين السابعة والثامنة من محادثات فيينا، قبل أن تتوقّف في أيلول من العام الماضي، لأسباب تتعلّق بعدم جدّية الطرف الآخر.
من «العلامات الفارقة» في مسيرة الراحل، على الصعيد الدولي، نجاح وزارته في تنفيذ جانب كبير من الرؤية التي حملها عهد رئيسي


بين الأكاديميا والسياسة
الرجل المولود عام 1964، والذي فقد والده وهو في السابعة من عمره، نشأ في كنف أسرة متديّنة، تنحدر من مدينة دامغان، الواقعة في محافظة سمنان الإيرانية. وقد شكّل التحاقه، في عام 1988، بكلية العلاقات الدولية التابعة للخارجية الإيرانية في طهران، حدثاً مفصليّاً في حياته السياسية والأكاديمية، ليتخرّج فيها عام 2000 حاملاً شهادة الدكتوراه في العلاقات الدولية، بدرجة امتياز. وفور تخرّجه وتعيينه في السلك الدبلوماسي الإيراني، شغل عبد اللهيان مناصب سياسية ودبلوماسية عدّة، من قبيل تعيينه في منصب نائب السفير الإيراني لدى بغداد، بين عامَي 1997 و2001، ومن ثم نائب الدائرة الأولى للشؤون الخليجية في وزارة الخارجية حتى عام 2004، قبل أن يُنتدب لمهامّ متّصلة بالملف العراقي، حتى عام 2007، وهي فترة شهدت مشاركته كممثّل لبلاده في المفاوضات المشتركة مع الجانبَين العراقي والأميركي بخصوص موضوع الانسحاب والترتيبات السياسية والأمنية المصاحبة له، بحيث عُيّن وكيلاً للمساعد الخاص لوزير الخارجية في الشؤون العراقية، ومن ثم مساعداً للمدير العام لدائرة الشؤون الخليجية والشرق الأوسط، قبل أن تتمّ ترقيته إلى منصب رئيس اللجنة الخاصة بالشؤون العراقية. ومع انتهاء مدة تكليفه كسفير لبلاده في البحرين، بحلول عام 2010، تدرّج عبد اللهيان في عدّة مناصب رفيعة، على غرار تعيينه مديراً عاماً في وزارة الخارجية الإيرانية لشؤون الخليج والشرق الأوسط، ومن ثم اختياره لمنصب نائب وزير الخارجية المكلّف بالشؤون العربية والأفريقية، قبل أن يصار إلى تعيينه وزيراً للخارجية في عهد الرئيس إبراهيم رئيسي، بعد فترة من التهميش إبّان الولاية الثانية من عهد سلفه حسن روحاني، عمل في معظمها بصفته مديراً عاماً للشؤون الدولية في البرلمان.

قربه من حركات المقاومة
وبالنظر إلى أن عبد اللهيان، كان محسوباً على التيار المحافظ في إيران، المعروف بولائه الشديد للمرشد الإيراني، وقربه من قيادات «الحرس الثوري»، بخاصة «قوة القدس»، فقد تمكّن الراحل، والذي كان يوصف بـ»الدبلوماسي المقاوم»، وخصوصاً إبّان فترة تولّيه الأمانة العامة لـ»المؤتمر الدولي لدعم الانتفاضة الفلسطينية» بدءاً من عام 2016، من نسج علاقات جيدة، على المستويَين الشخصي والسياسي، مع قادة حركات المقاومة، ولا سيما «حزب الله» في لبنان، وحركتَي «حماس» و»الجهاد الإسلامي» في فلسطين، حيث اضطلع بدور تنسيقي لافت بين تلك القوى، عقب عملية «طوفان الأقصى»، إذ كانت له جولات دبلوماسية مكوكية حملته إلى بلدان محسوبة على «محور المقاومة» كالعراق، وسوريا، ولبنان؛ كما كان في عداد أوائل المسؤولين الإيرانيين الذين كشفوا علانية عن تبلور خيار «التحرّك الوقائي» لدول المحور، بهدف إظهار الدعم والمساندة لغزة، وذلك في موازاة تحرّكه في اتّجاه عواصم إقليمية مختلفة، محسوبة على «محور الاعتدال»، كقطر، لتدعيم المقاربة الدبلوماسية لوقف العدوان على القطاع الفلسطيني المحاصر.