تردُ، منذ أسابيع، مؤشّرات إسرائيلية حيال الملفّ الإيراني في اتّجاهَين: الأول، يتمثّل في تهديدات أُطلقت على لسان مسؤولي الصفّ الأول من سياسيين وأمنيين، تحذّر من «اقتراب» الحرب بشكلها الواسع وعلى جبهات عدّة، على خلفية تقدّم عملية التخصيب الإيرانية التي باتت قريبة جدّاً من إنتاج سلاح نووي، وهي تهديدات لم تستثنِ أحداً من مركّبات المحور المقابل، وجاءت مفرطة ومباشرة مع إشارات إلى توثّب إسرائيلي وجهوزية فورية للقتال. أمّا الاتجاه الثاني، فيتمثّل في تسريبات إسرائيلية عن أن هناك «توجّهاً ما» لدى الإدارة الأميركية لإعادة إحياء المفاوضات مع إيران، تمهيداً للتوصّل إلى اتفاق ما زالت إمكاناته وحدوده غير واضحة. وأُضيف إلى ما تَقدّم، الإعلان عن مناورة عسكرية إسرائيلية تحاكي حرباً على الجبهة الشمالية، بما يشمل إيران وسوريا ولبنان. وعلى رغم كونها معدّة سلفاً، إلا أنه أُريد لها أن تتساوق مع التهديدات المُشار إليها، وهو ما ظهّرته المواقف والتحليلات والتعليقات المرافقة لها.
أُعلن عن زيارات لمسؤولين إسرائيليين إلى واشنطن، ترتبط مسؤولياتهم بالشأن الأمني والعسكري والشؤون الاستراتيجية (أ ف ب)

وتزامن كلّ ذلك مع تسريبات لافتة في توقيتها ومضمونها، عن «عرض» أميركي على إسرائيل للتخطيط العسكري المشترك في ما يتعلّق بإيران، قال مراقبون إن تل أبيب تمهّلت في قبوله على خلفية خشيتها من «تكبيل» يدها في حال قرّرت العمل منفردة في مواجهة طهران. في المقابل، تحدّث الإعلام العبري، نقلاً عن مصادر أميركية وإسرائيلية وأوروبية، عن زيارة لكبير مستشاري الرئيس الأميركي، بريت ماكغورك، إلى سلطنة عمان سرّاً، من أجل مناقشة إمكانية القيام بخطوة ديبلوماسية حيال إيران. ووفقاً لمصادر إسرائيلية مسؤولة (موقع «واللا» العبري)، فإن «البيت الأبيض يريد من خلال سلطنة عمان، معرفة ما إن كان الإيرانيون معنيّين باتّخاذ خطوات من شأنها تقييد برنامجهم النووي وإن نسبياً ومحلياً، مع العمل على تهدئة الوضع الإقليمي، وما هو الثمن الذي يريدونه في المقابل». وتُوّج جميع ما تَقدّم بإعلان «الوكالة الدولية للطاقة الذرية» إغلاق التحقيق في منشأة «ماريفان» الواقعة في جنوب مدينة أصفهان، والتي دأبت إسرائيل على الترويج لكونها جزءاً من مشروع السلاح النووي الإيراني، وهو ما دفعها إلى اعتبار الإعلان «ضربة قاسية جداً»، من شأنها إزالة واحدة من أهمّ العراقيل التي منعت عن إيران «تبييض صفحتها» دولياً.
في خضمّ ذلك، أُعلن عن زيارات لمسؤولين إسرائيليين إلى واشنطن، ترتبط مسؤولياتهم بالشأن الأمني والعسكري والشؤون الاستراتيجية، ومن بينهم رئيس «مجلس الأمن القومي»، تساحي هنغبي، ووزير الشؤون الاستراتيجية، روني ديرمر، اللذان التقيا مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، لمناقشة «البرنامج النووي الإيراني والتطبيع مع المملكة العربية السعودية». وبدا لافتاً، أيضاً، توجُّه رئيس الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك)، رونين بار، إلى واشنطن توازياً، للقاء المسؤولين الأميركيين، وفي المقدمة مسؤولو «سي آي إيه»، لمناقشة «التهديدات الإيرانية وأوضاع الفلسطينيين» في الأراضي المحتلة. وبناءً على هذه الحركة، يمكن القول إن ثمة تطوّراً ما، غير تصعيدي، في السياق الأميركي - الإيراني، تخشى إسرائيل من إمكانية أن يفضي إلى تفاهم ما، بما لا يتوافق مع الحدّ الأدنى من المصالح الإسرائيلية.
التهديدات الإسرائيلية موجّهة إلى الحليف الأميركي أكثر منها إلى العدو الإيراني


وفي ذلك، يشار إلى الآتي:
- إن كانت المعطيات الراهنة مقدّمة لتفاهم إيراني - أميركي، فمن شأن ذلك أن يحسم الاختلاف في التقديرات خول خلفية التهديدات الإسرائيلية الأخيرة. إذ ستكون هذه موجّهة إلى الحليف أكثر من كونها إلى العدو، علماً أن الولايات المتحدة لن تكون مستاءة من تهديدات، من شأنها أن تدفع الإيراني، نظرياً، إلى قبول ما يُعرَض عليه أميركياً، مع الأمل بتليين نسبي في الأثمان التي يطلبها في المقابل.
- تبرز من بين الزيارات الإسرائيلية لواشنطن، زيارة رئيس «الشاباك»، الذي ينحصر اختصاصه في الأمن العام والتهديدات الداخلية. فهل تعني حركته الانخراط في جهود التنبيه إلى حجم التهديد الإيراني، والتحذير من خطورة التوجّه إلى اتفاق ما بين أميركا وإيران، لا يراعي هذا الاعتبار؟
- قد يكون «خضوع واستسلام» «الوكالة الدولية للطاقة الذرية» (وفقاً للتعبير الإسرائيلي) أمام إيران، دليلاً على «نضوج» التفاهم بين الحليف الأكبر لإسرائيل، والعدو الأكبر لها، أو على كونه في الطريق إلى «النضوج». ذلك أن الوكالة ليست في وارد معاكسة الإرادة الأميركية، فيما هذه الأخيرة لا مصلحة لها في أن تحيّد سلاحاً موجّهاً ضدّ إيران (منشأة ماريفان)، من دون مقابل مُجدٍ.
على أن أكثر ما يثير خشية إسرائيل هذه المرّة، هو الآتي:
- المفاوضات بين الجانبَين، الأميركي والإيراني، جاءت بطلب ومسعى أميركيَّين، يلمَس تجاوباً إيرانياً معهما بفعل محفّزات. وهذه أولى «الدعسات» الناقصة التي تقدِم عليها الإدارة من وجهة نظر إسرائيل.
-في حال مباشرة التفاوض، ستكون إيران أكثر قوة وثقة وتمسّكاً بمواقفها ومطالبها، قياساً بما كانت عليه عشية انتهاء جولة التفاوض السابقة مع الأميركيين. فلدى طهران الآن أوراق ضغط تتجاوز مسألة البرنامج النووي والتهديد بإمكانية التقدّم فيه، أولاها العلاقة المتعمّقة مع روسيا عبر إمدادها بالسلاح المسيّر وغيره من الوسائل القتالية، ومكانة إيران التي تعزّزت كثيراً في المرحلة الأخيرة في ظلّ التراجع الأميركي في المنطقة، وكذلك فشل الرهانات على الخيارات البديلة لإسقاط نظامها، والنفوذ الإقليمي الإيراني الذي بقي على حاله واتّسع، ولم يكن الحدّ منه ثمناً مقابل «انفتاح» الأنظمة العربية على إيران وعلى سوريا.
- قد تقدِم واشنطن على إبرام اتفاق على قاعدة معادلة «الهدوء مقابل الهدوء»، بما لا يجبر طهران على تقديم تنازلات ملموسة وحقيقية، فيما تُرفع عنها في المقابل الضغوط والعقوبات، ولا يحصل الأميركيون منها سوى على وعود بتخفيف «العدائية الإيرانية» ضدهم. وتعدّ هذه النتيجة كارثية من ناحية تل أبيب، ليس فقط لكونها نوعاَ من الانكسار أمام إيران، بل لأنها ستشجّع الأخيرة على مواصلة السير في طريقها، مع مأمن من ثمن تجاوزها «الخطوط الحمر». أما الدول التي كانت مرشّحة كي تتصدّر الحلف المنشود لمواجهة إيران، فستتأكّد من أنه لا يمكن الاتّكال على الولايات المتحدة، وأن خيار «مهادنة» طهران هو الأكثر إفادة لها، بينما التحالف مع تل أبيب لا يجدي نفعاً.