في ظلّ موجات احتجاج دورية بدءاً من عام 2019، وضغوط خارجية من الغرب مع تراجع حظوظ إحياء الاتفاق النووي الإيراني، واستحقاقات مصيرية تنتظر خيار حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي تعميق انعطافة بلاده شرقاً، فضلاً عن توتّر العلاقات مع الجارة الشمالية آذربيجان، وبروز مؤشرات إلى ارتفاع مستويات الخرق المعادي، وبخاصّة الإسرائيلي، للداخل الإيراني، جاءت استقالة أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني. ظروف ما قبل الاستقالة، المتّصلة بتصاعد حدّة التظاهرات الأخيرة، جعلت «الأدميرال» هدفاً لجزء من تيّار «المحافظين» بدعوى ممالأة تيّار «الإصلاحيين»، من دون أن يَسلم في الوقت نفسه من سهام نقد الأخير أيضاً، بداعي تحميله مسؤولية ما تُسمّى «المقاربة الأمنية» للاضطرابات.سِجلّ ابن الأهواز، المنحدر من عشيرة الشماخنة التابعة لقبيلة بني ربيعة، والذي شَغل منصبه منذ عام 2013، وهي ثاني أطول مدّة يقضيها مسؤول إيراني على رأس أرفع جهاز حكومي لصنع السياسات الداخلية والخارجية، بعد الرئيس السابق حسن روحاني الذي قضى فيه أكثر من 15 عاماً، يبدو في أغلب محطّاته مائلاً إلى الهدوء. يُحسب للرَّجل دوره في إتمام أحدث إنجازات السياسة الخارجية لبلاده، وأبرزها، خلال العقد الأخير، اتفاق المصالحة بين السعودية وإيران في العاصمة الصينية، بكين. والمفارقة أنه الشخصية نفسها التي يُنسب إليها إنجاز موازٍ حقّقته الديبلوماسية الإيرانية قبل ما يناهز العقدَين، وتحديداً في عام 2001، حين أَبرم الجانبان اتّفاقية للتعاون الأمني، خلال فترة تعيينه وزيراً للدفاع.
كما في السياسة الخارجية، كذلك في المعادلة الداخلية، فإنّ لدى شمخاني «بروفايلاً غنيّاً» لا يمكن الاستهانة به


الأصول العربية لشمخاني، المنحدر من محافظة خوزستان، إلى جانب حنكته السياسية وخبرته العسكرية الواسعة، جعلته في فترة من الفترات يزاحم أدوار شخصيات وازنة في النظام الإسلامي في طهران، إلى حدّ دفع البعض إلى تسميته بـ«وزير خارجية المرشد». تلك السِمات الشخصية، والكفاءة المهنية التي طَبعت حياته السياسية، لعبت دورها في اختياره لهذا الموقع الذي يحظى بعناية خاصّة من المرشد الأعلى، آية الله علي خامنئي، ليُصار إلى تكليفه بملفّ العلاقات الإيرانية - العربية، حيث أبلى بلاءً حسناً مع تحسُّن علاقات طهران بعدد من العواصم الخليجية خلال الآونة الأخيرة، كالرياض وأبو ظبي.
كما في السياسة الخارجية، كذلك في المعادلة الداخلية، فإن لدى شمخاني «بروفايلاً غنيّاً» لا تمكن الاستهانة به. هو المقاتل الثائر ضدّ نظام الشاه، والقائد المقدام الذي تدرّج في «الحرس الثوري الإسلامي» منذ انخراطه في صفوفه إبّان الحرب العراقية - الإيرانية، وأحد الجنرالات القلائل ممَّن تولّوا قيادة البحرية لكلٍّ من الجيش و«الحرس». «الأدميرال» الإيراني، المشهور بهندامه غربي الطراز، يَحمل في مكنونات شخصيته عناصر قد تبدو متناقضة بالنسبة إلى البعض؛ فهي في جانب منها أقرب إلى «المرونة الأيديولوجية» - كما يصفها معلّقون غربيون - التي شكّلت عنصراً حاسماً في مسيرته السياسية، حين مثّل هو نقطة تقاطع بين «المرشد» والحكومة «الإصلاحية» في عهد الرئيس السابق حسن روحاني، لدى تعيينه أميناً للمجلس الأعلى للأمن القومي، ونقطة تقاطع بالقدر نفسه بين الأخيرة وحكومة الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي، حيث كان المسؤول الوحيد الذي احتفظ بمنصبه مع انتقال السلطة بين عهدَين، وسط تفاوت التقديرات في شأن مدى تعزُّز حضوره في السياسة الخارجية خلال عهد الرئيس المحسوب على التيّار المحافظ.
ويزعم معلّقون غربيون أن «اهتزاز عنصر الثقة» بين خامنئي وشمخاني، والذي مثّل سرّ صعود الأخير في هرم السلطة، حين تحوّل، على مدى الأعوام القليلة الماضية، إلى الشخصية التي لا غنى عنها للإبقاء على قنوات الحوار مع «الإصلاحيين»، ربّما يكون أحد عوامل هبوطه عنه، مع تبنّيه أخيراً مطالب «إصلاح النظام من الداخل»، وإخفاقه في توظيف مرونته ورصيده من الصدقيّة في إنجاح المهمّة التي أَوكلتها إليه الحكومة خلال العام الماضي، وعنوانها إقناع قادة التيّار «الإصلاحي»، وبخاصة من أسرتَي رفسنجاني والخميني، بالتوجّه علناً إلى المتظاهرين وتهدئتهم.